لا تزال الحكومة المصرية تعمل بمنهج انفرادى فى العمل السياسى، فرغم أنها حكومة غير منتخبة وأقرب إلى حكومة تسيير الأعمال إلا أنها تصر على أن تعمل بمعزل عن البيئة السياسية فى إصدار التشريعات والقوانين، لا سيما فى ظل غياب مجلس تشريعى منتخب يعبر عن إرادة الشعب المصرى. وفى هذا السياق جاء مشروع قانون الدوائر الانتخابية ليشكل صدمة للقوى السياسية التقليدية والحديثة معا، وبات يهدد البرلمان القادم بالبطلان حتى قبل إجراء الانتخابات، هذا فى الوقت الذى تبرز فيه أهمية البرلمان القادم، فهو له خصوصية تختلف عن كل البرلمانات السابقة، فهذا هو البرلمان الأول بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير التى أطاحت بالنظام السابق، كما أن هذا البرلمان سيتولى بشكل أساسى إعداد دستور جديد للبلاد، فضلا عن كونه سيتولى تعديل معظم التشريعات المصرية التى لا تلقى قبولاً من الشعب المصرى وتم تعديلها إبان الفترة الأخيرة للنظام السابق لتشديد قبضته على البلاد.
ويمكن القول إن هذا التقسيم قد وجهت له سهام النقد بقوة نتيجة لجملة من الأسباب والعوامل وهى عدم التناسب فى تقسيم الدوائر وبعضها البعض، حيث نلاحظ أن بعض الدوائر الانتخابية تمثل نحو 400 ألف صوت، فى حين نجد دوائر أخرى لا تمثل سوى 200 ألف صوت، وهذا يخل بمبدأ التوزيع العادل للأصوات داخل البرلمان، حيث إن معظم النظم المقارنة تسعى إلى تمثيل سكانها على قدم المساواة فى البرلمان، من خلال تقسيم الدوائر الانتخابية على أساس عدد متساو من الأصوات، بحيث تغطى كل دائرة انتخابية نفس العدد من الناخبين فى دائرة أخرى بما يحقق التوزيع المتكافئ بين الدوائر الانتخابية، وهذا أمر نفتقده إلى حد كبير بسبب اختلاف الكثافة السكانية بين محافظات مصر المختلفة، ففى حين تقل الكثافة السكانية فى محافظة شمال سيناء وجنوب سيناء بحيث لا تصل لأكثر من مائة ألف نسمة، حيث تمثل كل محافظة بمقاعدين فى البرلمان القادم بالنظام الفردى، نجد أن هناك تزايدا فى الكثافة السكانية بصورة عالية فى بعض أحياء القاهرة مثل دار السلام ومصر القديمة التى لا تمثل سوى بمقعدين رغم بلوغ عدد السكان نحو مليون نسمة، فضلا عن هذا فهناك اتساع شديد فى الدوائر الانتخابية مما يعزل المرشح عن قطاع كبير من ناخبيه ويتطلب مضاعفة التمويل للدعاية الانتخابية.
ولهذا لا بد من إعادة النظر فى مشروع قانون الدوائر الانتخابية المقترح، بحيث يتم تعديله ليعمل على تحقيق التناسب بين عدد السكان وعدد المقاعد المخصصة لهم فى البرلمان، فتقسيم الدوائر لم يخضع لمعايير واضحة بالنسبة لمساحات الدوائر المختلفة فى النظام الفردى، وهنا يجب إعادة النظر فى القانون وتبنى معيار محدد للدوائر الانتخابية وأن تحدد كل دائرة انتخابية لكى تغطى نحو 185730 نسمة من السكان تقريباً.
وهذا لن يتأتى إلا بعد تعديل قانون الانتخابات أساساً من خلال اتباع نظام القائمة النسبية وإلغاء النظام الفردى، خاصة أن الانتخابات وفقا لنظام القائمة والفردى معا ستجعل إجراء الانتخابات يتم عن طريق صندوقين أحدهما للفردى والآخر للقائمة مما يحمل معها مخاطر ارتفاع عدد الأصوات الباطلة بسبب الخلل فى نسبة المصوتين فى القائمة عن المصوتين فى الفردى.
وهذا كله رفع سقف مخاوف العديد من القوى السياسية من إجراء الانتخابات وفقا لهذا النظام، لأن هذا أمر يصعب على المواطن البسيط، حيث إن الطريقة المثلى للانتخابات يجب أن تكون بالقائمة النسبية ونصوت بعلامة نعم على القائمة وتوزع على المقاعد بنسبة ما تحصل عليه كل قائمة من الأصوات، لأن هذا سيعطى فرصة للقضاء على آفات وسلبيات النظام الفردى القائم على العصبيات وسلاح المال، بما يؤدى فى نهاية المطاف إلى ظهور برلمان يغطى كل القوى السياسية والحزبية والتنوعات الأيديولوجية فى المجتمع على حد سواء، ويخلق برلمانا قويا قادرا على ممارسة مهامه الموكلة إليه على أكمل وجه سواء على الجانب التشريعى أو الرقابى.
وأخيرا يجب على الحكومة أن تعيد حساباتها بشأن مشروع هذا القانون، وأن تشكل لجنة من جميع الأحزاب والقوى السياسية والمنظمات للاتفاق على ملامح لقانون الدوائر الانتخابية.