د. بليغ حمدى

أنا نازل التحرير.. جاى معايا؟

السبت، 14 يناير 2012 09:37 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أنا نازل التحرير.. جاى معايا؟ هكذا قال صديقى جملته الأخيرة، ثم أغلق هاتفه المحمول تماماً، ولما حاولت الاتصال به أكثر من مرة لم أجده متاحاً، كانت العبارة منذ سنة تقريباً، ولم يكن يسخر حينما قال صديقى إنه ذاهب لإسقاط نظام مبارك السياسى وحكمه الفاسد الذى قبع على صدور المصريين ثلاثة عقود.

قال صديقى هذه الجملة ولم تكن لديه أية انتماءات سياسية، ولم يكن يوما منتمياً لأى فصيل سياسى يتسيد المشهد الآن، خرج صديقى إلى التحرير بعد رسائله الإلكترونية المتكررة لى ولبقية الأصدقاء المهمومين بمصر، وكنا ساعتها نتساءل ما الذى جرى لصديقنا هذا الذى لم يكن مهتما بما يحدث فى مصر من قضايا سياسية، ولم يكن منضماً لصفحة كلنا خالد سعيد أو عضواً بحركة كفاية أو 6 أبريل، بل إنه كان مهتماً فقط بقراءة صفحة الرياضة، وكم من مرة كنت أتسول منه قراءة سطر واحد لى بما تنشره الصحافة، لكنه لم يعبأ بما دون الرياضة.

وربما أصابتنا جميعا دهشة خروجه إلى الميدان عشية جمعة الغضب، وجدناه هناك واقفاً فى شموخ، رصدته كل الكاميرات والعدسات الفضائية التى كانت تتلصص الموقف المهيب، وجدناه حاملاً علم مصر، الذى حمله فقط، وهو يشجع منتخب المعلم حسن شحاتة فى مبارياته الأفريقية على المقهى المجاور للميدان التاريخى. لكن هذه المرة وجدناه متوشحاً بالعلم وبجسده آخر مكتوب عليه عبارة: مصر لنا..

كل هذه الشواهد جعلتنا نرقب ماذا يفعل صديقنا الغالى، فمرة وجدناه يقول الشعب يريد إسقاط النظام، ومرة إسقاط مبارك، ومرة يعزف لحناً بجيتاره الذى لم يفارقه طيلة الدراسة الجامعية ويغنى بلادى بلادى لك حبى وفؤادى، ومرة يعتلى تمثال الشهيد عبد المنعم رياض، وهو يهتف مصر حرة.. مصر حرة..

حاولنا ساعتها أن نسترجع الأحداث اليومية الأخيرة فى حياة صديقنا، هو لم يرتبط بفتاة فهجرته فقرر أن يعوض حبه الفائت فى ثورة لا ناقة له فيها ولا جمل، كما أنه ناجح جداً فى عمله الذى اختاره لنفسه بأن يكون مهندساً للديكور، كما أنه لا يعد مهمشاً فهو يعشق الرسم التشكيلى وكم من مرة أقام معرضاً لأعماله رغم أن الذوق اختلف فى هذه البلاد. إذن لم نلتمس سبباً واحداً يجعله يفعل ذلك، فخلفيتنا التاريخية عنه تؤكد أنه لم يشارك فى احتجاج واحد بالجامعة لأنه كان يخاف بطش أمن الدولة الجهاز الأمنى المنحل.

ولم نجد مثلاً متعاطفاً مع أهل غزة كأبو تريكة مثلاً، ولم نجده مثلاً يشارك فى تظاهرات المسلمين ضد الرسوم المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) أو يقيم حواراً ثقافياً مع الغرب مثل الداعية عمرو خالد.

لذلك كان الأمر مختلفاً، يهتف، يقفز عالياً ويصيح ضد مبارك ونظامه، يقترب من عربة الموت الأمنية، يقف أمامها، هم يصوبون نحوة فوهة البندقية الآلية وهو يلوح بعلم بلاده، يرشونه بالماء فلا يكترث، يقذفونه بالقنابل المسيلة للدموع فلا يهرع، ما الذى جرى لهذا الصديق الذى اعتدنا فيه أنه يخاف من لون العربة الزرقاء لون سيارات البوكس الأمنى التابعة لوزراة الداخلية.

وقف صديقى أمام العربة الطائشة بكل جسارة وبسالة لم يهب الموقف الذى سيودى بحياته حتفاً، نظر إلى فوهة البندقية التى تحملها يدان ترتعشان خوفاً من مصير مجهول غامض، انطلقت الرصاصة بسرعة البرق وقوة الرعد نحو رأس صديقى، سقط على الأرض، هرولنا نحوه بدأ يلتقط آخر أنفاسه فى الدنيا، نظر للسماء، قال لنا جميعاً دونما تفرقة بين مسلم أو قبطى، إخوانى أو سلفى، شيعى أو سنى، طفل أو عجوز، ليبرالى أم علمانى، قال لنا جميعا بصوت وئيد يشبه الحنان فى دعته: عاشت مصر.. مات صديقى..

واليوم ونحن باستشراف الاحتفال بذكرى وفاته وذكرى ثورتنا المجيدة، كيف أخبره عن حال مصر بعد استشهاده، هل سأقول له إن التيارات الدينية تركت مصر وراحت تفكر فى أنه لن يصبح رئيس مصر قبطياً، رغم أن مصر منذ ولادتها لم يحكمها قبطى فلماذا فى ظل المد والصعود الدينى سيحكمها الآن رجل مسيحى، ولا هو جر شكل والسلام؟.

ماذا سأقول له عن حال وطن لا يزال مترقباً محاكمة مبارك وإصدار حكم تاريخى بشأن اتهامه بقتل المتظاهرين، لذا لم نعمل ولم ننتج ولم نصنع ولم نفز حتى فى مباريات المنتخب الكروية لأننا مشغولون بأمره الذى بالضرورة أهم من مصر التى استشهدت من أجلها؟.

ماذا سأقول له وقد شاركنا بصورة غير مباشرة فى حرق المجمع العلمى بسلبيتنا وهوسنا المحموم نحو التظاهر، هل سننتظر احتلالا جديداً على يد فرنسى آخر كنابليون بونابرت من أجل أن يشيد لنا مجمعاً جديداً؟.

ماذا سأقول له عن حال وطن أصبح يحترف الفوضى، وأتقن فن التخوين، والمبالغة فى مطالبه الفئوية؟.

ماذا سأقول له عن وطن أدمن الرفض؛ رفض بقاء المجلس العسكرى فى إدارة البلاد، ورفض المحاكم العسكرية للمدنيين، ورفض وجود حكومة الإنقاذ، ورفض الانتظار المبالغ فى محاكمة مبارك ورموز النظام القديم، ورفض الانتظار أمام طوابير الانتخابات ،ورفض تصريحات أى قبطى فى مصر، ورفض تعادل الزمالك ـ باعتبارى زملكاوى قديم ـ فى مباريات كرة القدم بسبب سياسات اتحاد الكرة المناصرة للنادى الأهلى.

ماذا سأقول له عن فتنة الانتخابات البرلمانية التى أصابت كافة التيارات الدينية التى تؤمن بعقيدة الجهاد لكنهم تركوا الميادين ونسوا القضية برمتها ودججوا أسلحتهم الدعائية وإعلامهم الموجه لتحشيد الجماهير نحو الصناديق، وربما سيعلنون بعد ذلك أن الانتخابات كانت مزورة، رغم أن الحزب الوطنى أبيد وانحل؟..

مات صديقى بغير ادعاء بطولة أو صراخ تمثيلى، ونحسبه جميعاً من الشهداء الأبرار عند الله (سبحانه وتعالى)، أما أنا فسأردد ما قاله مالكوم إكس: يجب أن تثير ضجة لتحصل على ما تريد..








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة