للتاريخ مكره، ومفارقاته الغريبة التى أحيانًا تبدو بائسة، وبلا دلالة، لكنها تظل حقائق ومعطيات لا يمكن الفكاك منها، من مفارقات تاريخنا أن محمد على كان أميّا، ومع ذلك قاد نهضة مصر الحديثة، وأن حزب الوفد الذى جسد الحركة الوطنية فى ثورة 1919 رفض دستور 1923، ثم أصبح المدافع الأول عنه.
عبدالناصر قاد العرب وحقق إنجازات تنموية وعدالة اجتماعية وانتهى بأكبر هزيمة فى تاريخ مصر الحديث، أما السادات فقد وظف الدين فى السياسة وشجع الإخوان والجماعات الإسلامية ليقتل برصاص إحدى هذه الجماعات. وأطلق مبارك برنامجًا طموحًا لنشر الإنترنت أدى لانتشار وسائل التواصل الاجتماعى التى استخدمها الشباب لإسقاطه, أخيرًا ثورتنا العظيمة، اختار الشباب عيد الشرطة لبدء تفجيرها، وكانت مفارقة ساخرة، فهى المرة الأولى فى التاريخ التى يحدد فيها موعد لثورة!! وأن تتزامن مع عيد الشرطة التى انحرفت عن وظيفتها ودخلت فى عداء غير مقبول مع الشعب، وبالتالى أصبح 25 يناير عيدًا للثورة، ومن الجنون أن يظل عيدًا للشرطة!!
لكن المفارقة الأهم فى ثورة 25 يناير أن قوى كثيرة شاركت فى لحظة التفجير الأولى وتحملت مخاطر الصدام الدموى مع النظام، ومع ذلك لم تمثل فى البرلمان بحجم ومستوى ما قدمته من تضحيات، بينما ذهب ربع مقاعد البرلمان للسلفيين الذين لم يشاركوا قى الثورة إلا فى ربعها الأخير!! والذين كان أغلبهم يرفضون الخروج على الحاكم، والأهم أنهم كانوا - ومازال بعضهم - يرفضون الديمقراطية الكفرية!! حتى الإخوان الذين حازوا الأغلبية لم يمثلوا أغلبية الشباب الذين خرجوا يوم 25 يناير، هل هو مكر التاريخ أم تحايله المشروع فى أن يكون برلمان الثورة غير ممثل للثوار ولا يجسد قيم وأهداف الثورة فى دولة ديمقراطية مدنية؟ ما يعنى أننا إزاء تناقض جديد بين البرلمان وقوى الثورة التى تحفظت على مسار الانتخابات أو شاركت فيها ولم تنجح، لأنها تفتقر إلى الخبرة والتمويل والوجود المستمر والفاعل بين الناس, وهذه القوى وأغلبها من الشباب تتمسك بسلاح الثورة الأساسى، وهو التظاهر والاعتصام، ولاشك أن البرلمان فيه كثير من القوى والشخصيات التى مهدت الطريق للثورة وشاركت فى صنعها، وبالتالى فمن الممكن لأغلبية البرلمان أن تبارك هذا الحق وتدعمه مادام لن يتعارض مع القانون، وبالتالى فلابد من التوافق بين الطرفين والذين كانوا شركاء فى الثورة على الاعتراف المتبادل بالوجود والشرعية، الشباب معهم شرعية الثورة والميدان، وهى شرعية تاريخية، ولا تمثل الآن أغلبية الشعب فى ظل برلمان منتخب يمثل أغلبية الشعب. فهل من الممكن الحفاظ على الشرعيتين وخلق أطر ومجالات لتعايشهما تحت شعار استكمال تحقيق أهداف الثورة وحمايتها.
لا مجال للوقوف أمام حيل التاريخ وحقائقه، ومنها أن الانتخابات التى جاءت بممثلين شرعيين للشعب المصرى لم تكن لتنجح لولا قيام الجيش بتنظيمها وتأمينها، نعم.