لا تحمل قرار الدكتور محمد البرادعى بالانسحاب من انتخابات الرئاسة ما لا طاقة للرجل به، فلا تخرج بقرار الانسحاب من حيزه السياسى إلى حيث براح الثورة، لأن الله سبحانه وتعالى لم يكلف نفسا إلا وسعها، فلا تكلف أنت الدكتور البرادعى شيئا يبدو أن أكتاف الرجل أضعف من أن تتحمله.
قرار البرادعى بالانسحاب من انتخابات الرئاسة قرار سياسى، ربما يكون صحيحا ويحفظ له هيبته ومكانته، وبالتالى يستحق التحية لو افترضنا أن الدكتور اتخذه بناء على قراءة المشهد السياسى واكتشاف اكتساء أسهمه باللون الأحمر فى ظل ضعف تحركاته الانتخابية وسط النشاط الملحوظ للمنافسين، ونجاح التيار الإسلامى الذى يعادى البرادعى ولا يرى فيه رئيسا لمصر المستقبل.
«ثورية» قرار البرادعى كان من الممكن أن تكون مقبولة ومفهومة لو جاء قرار الانسحاب عقب دماء محمد محمود أو مجلس الوزراء، وليس بعد الاكتساح الإسلامى للبرلمان، الأمر واضح جدا إذا نظرت له من تلك الزاوية وأعدت قراءة بيان انسحاب البرادعى وتصريحات الذين اجتمعوا معه لمناقشة قرار الانسحاب، والتى تركزت كلها حول عدم ارتياح الرجل للانتخابات ونتائجها وعدم قناعته بالبرلمان القادم وقدرته على تحقيق آمال الثورة، وهو كلام ربما يشتمل على بعض من الصحة، ولكنه يحتوى على الكثير من الإهانة لصندوق الانتخابات ولمن جاء به، وللناخبين أنفسهم، وهو الأمر الذى يصب فى كأس العلاقة بين البرادعى والشعب والتيارات الإسلامية المزيد من خمر العداوة والجفاء.
الميزة فى قرار انسحاب البرادعى هى إمكانية قراءته بأكثر من طريقة، أول هذه الطرق أن بين البرادعى والنادى الإسماعيلى أوجه تشابه كثيرة مثل جمالية الأداء التى يفسدها النفس القصير غير القادر على خوض غمار البطولات الكبرى.
المعارضون للبرادعى يقرأون قرار الانسحاب بشكل مختلف، يقول بأن الرجل شعر بالهزيمة مبكرا ففضل الانسحاب بشرف والحفاظ على ماء وجهه، وهى قراءة مغايرة تماما للقراءة الثالثة التى يقدمها أنصار البرادعى الذين يرون فى الانسحاب شرارة لاستكمال الثورة على اعتبار أن ظهور البرادعى فى الصورة من الأساس هو الذى فجر الثورة، وهى قراءة تنتقص حق الكثير من المناضلين الشرفاء الذين بدأوا معارك معارضة نظام مبارك وهز عرشه فى الوقت الذى كان فيه البرادعى يجلس مع مبارك وزوجته ورموز نظامه محاورا ومناقشا وضيفا مكرما، وفيه أيضا انتقاص لحقوق الكثير من الشباب والمواطنين الذين اعتادوا الخروج للشارع والهتاف بسقوط مبارك والتعرض للاعتقال والسحل وقت أن كانت كلمة «يسقط يسقط حسنى مبارك» عزيزة وثمنها غال.
هو إذن انسحاب سياسى وليس ثوريا لرجل لا يمكن إنكار دوره فى الثورة المصرية، كما لا يمكن الإيمان بكلام أنصاره العاطفى حول كونه الأب الروحى للثورة، لأن 25 يناير ثورة بلا رمز ولا أب ولا قائد، الكلمة الأولى فيها كانت للغضب الشعبى والصبر الذى نفد، وللمهمشين والبسطاء الذين فتحوا صدورهم للرصاص والخرطوش وقنابل الغاز ولم يطلبوا مقابل ذلك ثمنا أو حكايات عن أدوار مفخمة ومضخمة فى إشعال شرارة الثورة.