إبراهيم عبد المجيد

حرية الإبداع والدفاع عن مصر

الجمعة، 20 يناير 2012 07:51 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى المؤتمر الأول للجنة الدفاع عن حرية الإبداع، الذى أقيم فى نقابة الصحفيين، كنت وأنا أستمع إلى بيان اللجنة الضافى الوافى أشعر بالفخر والقوة كما لو كنت فى قلب ميدان التحرير، رغم معرفتى العميقة بما جرى للوطن من تخلف عبر الأربعين عامًا الماضية التى انفتحت فيها النوافذ على اتساعها للفكر الوهابى ليغزو مصر غزوًا هدفه الأول والأخير أن يجعلها بلدًا صحراويّا يخيم فوقه الخراب.

لن أتحدث عن المؤتمر وأهميته ولا الفنانين المحترمين الذين دعوا إليه ولا الفنانين والكتاب والثوار والنشطاء وعلماء الأزهر والصحفيين من كل الأعمار الذين حضروا أيضًا. باختصار كان حضورًا عظيمًا يؤكد أن مصر الثورة لن تخمد نارها، وأن فنانيها وكتابها وكل مبدعيها الحقيقيين الذين عرفهم ميدان التحرير لن يغيبوا أبدًا عن بناء المستقبل الذى عاشوا يحلمون به، وكتبوا وأبدعوا وسط ظروف شاقة لسنوات طويلة وعيونهم على المستقبل دائمًا. كان صوت الفنان العظيم محمود ياسين وهو يقرأ البيان يعيد إلى أسماعنا أسماء كانت هى روح الوطن وتاريخه كله فى العصر الحديث بنوا نهضة مصر الفكرية والعلمية والفنية والصناعية والمعمارية، بينما الغزو الوهابى منذ أربعين سنة يحارب كل هذا بأجندة صحراوية معلنًا أنه يعرف الطريق إلى الله وحده، بينما عرف المصريون - وهم يبنون حضارتهم القديمة - الله، ووحدوه قبل أن يمشى شخص واحد أو ناقة أو جمل فى الصحراء التى هبت علينا ريحها الأربعين سنة الماضية، وهبت أموالها بعد أن ارتفعت أسعار النفط إلى السماء بعد حرب أكتوبر التى كنا نحن أيضًا، نحن المصريين، أبطالها. كنت أسمع أسماء رفاعة الطهطاوى، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وسيد درويش، ويوسف شاهين، وصلاح أبوسيف ومحمد ناجى، ومحمود سعيد، ومحمد عبدالوهاب، وزكريا أحمد، وأم كلثوم وغيرهم ممن اقتصد البيان العظيم فى أعدادهم، فهم بالآلاف، وأسال نفسى: أين كان هؤلاء الوهابيون؟ وماذا قدموا من قبل ومن بعد غير أموال يتم بها تغيير الضمائر وتبديد العقول وبناء عشوائيات وعمارات رديئة فى الأزقة مرتفعة بالرشوة إلى رجال نظام فاسد ليكتبوا فوقها عمارات الحرمين أو عباد الرحمن الذين أسكنوهم فيها فلا تعرف الشمس وجوه أبنائهم ولا الهواء؟
كنت أشعر بالحزن من قبل لأننا عدنا إلى الوراء كثيرًا جدّا. عدنا لندافع عن الحقائق البديهية التى وصلت بها مصر إلى مرتبة الدول الجميلة المتحضرة، حتى أنها كانت موئل المنفيين والمضطهدين من جميع بلاد العالم لمائة وخمسين سنة، منذ عهد محمد على.

مصر التى كانت حدائقها تشهد، كل يوم جمعة، الفرق الموسيقية تعزف، وطرقها تشهد المسابقات الرياضية، وشواطئها تشهد مسابقات الجمال ومدارسها تشهد كل أنواع الأنشطة العلمية والفنية والرياضية وجامعتها تشهد فرقها المسرحية، وكانت روحها تشتعل بالبهجة فى كل مكان حتى أطلت علينا هذه الرياح المتخلفة وكبرت فى ظل النظام السابق منذ السادات، وتوحشت فى عهد مبارك الذى ساعدهم على ذلك بإفقار الشعب ونهبه، فلم يجد الشعب أمامه إلا العشوائيات يبنيها مع هؤلاء الوهابيين الذين جعلوه يكره الدنيا من أجل الآخرة بكيلو لحمة يوزعونه على الفقراء فى كل عيد.

اتفاق مضمر بين النظام البائد، الذى لا تريد بقاياه أن ترحل باتفاق جديد معهم، وبين هؤلاء الوهابيين على اختلاف مسمياتهم وجماعاتهم، على أن يتركوا لمبارك ورجاله الحكم ينهبون به ثروة البلاد وهم ينشرون أفكارهم. وحين قامت الثورة العظيمة لم يكونوا ممن عملوا من أجلها، بينما شباب الأمة ومناضلوها الحقيقيون من غيرهم ظلوا فى السنوات العشر السابقة على الثورة يخرجون إلى الشوارع محتجين ويعرفون السجون والاضطهاد حتى انتفض شباب الأمة البعيد عن هؤلاء الوهابيين متأثرين بالمناضلين الحقيقيين وبعلمهم وثقافتهم وصنعوا الثورة العظيمة التى قال المتشددون من الوهابيين عنها إنها خروج على الحاكم، وانتظر من يعتبرهم البعض وسطيين حتى نجح الشباب واحتلوا ميادين البلاد يوم 28 يناير، ثم نزلوا ينضمون إليه، وفى اليوم الذى رحل فيه مبارك رحلوا هم عن الثورة وتركوا الشباب يناضلون من أجل أهدافها ويدفعون أرواحهم ودماءهم.

جاءت بهم الانتخابات لأسباب يطول شرحها فكشروا عن أنيايهم وبدأوا بسرعة إعلان حربهم على الفن والإبداع. لقد قضوا على شكل الأمة المتحضر القديم ابتداء من البناء وانتهاءً إلى الزى، وقضوا على كثير من عقول أهلها البسطاء الذين أفقرهم النظام السابق، ولم يدافعوا عنهم أبدًا. والآن قفزتهم الأخيرة على روح الأمة، أجل مهما صرحوا بأنهم لن يعادوا الفنون والآداب فهذا كله كلام سياسى مراد به استهلاك الوقت وعدم فتح جبهة الآن مع مثقفى الأمة، لكن من ينسى أنهم هم الذين كانوا أصحاب كل الضجيج والاستجوابات عن الروايات والشعر والأفلام التى وصلت إلى حد المظاهرات أحيانًا، ومن ينسى هجومهم المستمر على الفن والفنانين والأدباء والعلماء حتى الآن فى كل قنواتهم التليفزيونية. كنت أستمع إلى البيان العظيم لجبهة الدفاع عن حرية الإبداع، وأسمع فى الوقت نفسه الشعارات السياسية العظيمة للثورة، إسقاط النظام وإسقاط حكم العسكر الذى يعنى أن المعركة ليست مع أعداء الإبداع فقط، ولكن مع بقايا النظام من الحكام الذين يرون فى هؤلاء الوهابيين الآن فرصتهم الثانية، ليس للخروج الآمن كما يقال، ولكن للبقاء الآمن. لقد أعادنا هؤلاء الوهابيون الذين يسرقون الثورة أو يخيل إليهم ذلك الآن إلى أفكار من عصور الظلام لست بحاجة إلى أن أعيد الحديث فيها، فهم والنظام السابق كانوا وراء الخراب الذى حل بالبلاد، وذلك كله كتبته فى كتابى الذى أصدرته دار الهلال منذ ثلاث سنوات بعنوان «ما وراء الخراب». لن أعيد الحديث عن معنى التراث ولا الهوية ولا النهضة ولا الآخر ولا الدين، مما شرحته فى الكتاب وكتبت عنه كثيرًا من المقالات، وهى الأسئلة التى أجابت عنها النهضة المصرية العظيمة منذ عهد محمد على، فكانت النهضة الحقيقية التى انطلقت بقوة بعد ثورة 1919 وكانت حركة الإحياء العظيمة للتراث المستنير من التاريخ الإسلامى فى كل شىء وكانت مصر، كما قلت، للمصريين، تتكلم العربية حقّا ويربطها بالعرب حقّا لسان واحد، لكنها ابنة البحر المتوسط وثقافته العظيمة، وليست بنت البادية، وكانت كما قلت موطنًا للآخر من كل دين ووطن يستجير بها ويصبح من أهلها ويساهم فى بناء حضارتها وتقدمها. اقرأوا أيها الناس تاريخ الجامعة المصرية واعرفوا مَن مِن مفكرى العالم ساهم فى نهضتها واقرأوا تاريخ السينما والمسرح واعرفوا مَن مِن عظماء الشام ساهم فى نهضتيهما، واقرأوا تاريخ الصحافة وتاريخ كل شىء لتعرفوا كيف كانت مصر مكانًا واسعًا عظيمًا للآخر من الأديان والأجناس الأخرى ولا تقرأوا تاريخ العمارة، بل انظروا إلى العمارة فى وسط البلد وفى مصر الجديدة وغيرها، وانظروا إلى عمارات شارع فيصل أو بولاق الدكرور أو غيرها التى تعلو أبوابها اللافتات القادمة من شبه الجزيرة العربية.

ولم يكن فى مصر أبدًا مشكلة مع الأديان السماوية لأنها قبل الرسالات عرفت الطريق إلى السماء.

هل تعرفون لماذا الأهرام مثلثة البناء؟ لتصعد الروح إلى بارئها من أسرع الطرق. وغير ذلك كثير جدّا، لذلك وجدت الأديان السماوية كلها فى مصر أرضًا وملاذًا إذا حاق بأهلها الاضطهاد.

الخلاصة الآن أن المعركة لن تنتهى بسهولة بعد أن صار لهم وجود فى المؤسسات التشريعية، بعده سيكون فى المؤسسات التنفيذية. الخلاصة أيضًا أن المؤتمر الأول للدفاع عن حرية التعبير بما ظهر فيه من قوة ومن حضور ومن شعارات لا تفصل مطلب الشعب فى إنهاء حكم العسكر، وإسقاط النظام جنبًا إلى جنب مع الدفاع عن حرية التعبير، يعنى بإيجاز أن هذا الوطن لن يسرقه أحد.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة