انتهت الانتخابات البرلمانية، وأفرزت مراحلها الثلاث ما كان متوقعًا سلفًا باستحواذ "التحالف الديمقراطى من أجل مصر" الذى يعتلى رأسه حزب "الحرية والعدالة" الذراع السياسى لجماعة الإخوان المسلمين على الأغلبية البرلمانية قرابة 46.2% من إجمالى عدد المقاعد المنتخبة 498 مقعدًا.
وحتى نكون صرحاء مع أنفسنا، فإن الإخوان المُسلمين يستحقّون أغلبيتهم البرلمانية التى حصدوها فى برلمان الثورة، ذلك بسبب تماسكهم وتنظيمهم وانخراطهم وسط الجماهير منذ نشأتهم الأولى 1928م، وهو بلا شك ما أبقاه تنظيمًا قويًا رغم كافة محاولات قمعه أمنيًا فى العقود السابقة، وإحقاقًا للحق لا يستطيع أحد أن يُزايد على الإخوان كتنظيم فيما قدموه من تضحيات كبيرة تُحسب لهم.
وكما استحضر صعود الإخوان للحكم تفاؤلاً عند عدد كبير من أبناء الشعب المصرى بأن صفاتهم المتوفرة لدى الكثير من قياداتهم كـ(النزاهة والتضحية والتجرد وإنكار الذات)، قد تكون وقودًا لاستكمال أهداف ثورة 25 يناير المجيدة، لاسيما فيما يتعلق بتطهير البلاد من الفاسدين وأتباع النظام السابق، استحضر كذلك هواجس تتعلق بطرق إدارتهم للدولة، وهل ستنتقل تفضيلاتهم الإدارية داخل جماعتهم (مذهب الولاء قبل الكفاءة المُتبع لديهم) إلى مؤسسات الدولة؟
دعونا أولاً قبل الخوض فى تفاصيل الإجابة على السؤال السابق أن نتفق سويًا بأن هناك فرقًا بحسب القواعد السياسية بين المناصب السياسية فى الدولة والمناصب العامة، فالأولى تستدعى تطبيق مذهب الولاء أولاً ثم الكفاءة، أم الثانية الكفاءة أولاً وأخيرًا.
ومن المنطلق ذاته لا يمكن بأى حال من الأحوال أن نُعيب على جماعة الإخوان المُسلمين ترشيحهم للدكتور محمد سعد الكتاتنى أمين عام حزب الحرية والعدالة وأستاذ علم النبات فى جامعة المنيا، رئيسًا للبرلمان، فهذا حقٌّ مشروع لهم بحكم طبيعة المناصب السياسية وكذلك أغلبيتهم البرلمانية.
ورغم ذلك، جاء ترشيح "الكتاتنى" فى ظل أوضاع البلاد الراهنة، حيث غياب الرؤية التوافقية بين كافة التيارات السياسية سواء التى داخل البرلمان أو خارجه، ترجمةً للهواجس المُشاعة حاليًا بأن الإخوان بعد حصولهم على الأغلبية يريدون السيطرة والاستحواذ البرلمانى؛ بخاصة بعدما ظل المستشار محمود الخضيرى مطروحًا من قبلهم أو كما كنا نعتقد كرئيس للبرلمان منذ اللحظات الأولى للانتخابات البرلمانية، بل ظننا جميعًا أنهم دفعوا به للانتخابات من أجل ذلك، واعتبرنا حينها أنه موقف إخوانى يتناسب ومتطلبات المرحلة الحرجة التى تمر بها البلاد، لأنه كان مناسبًا لرئاسة البرلمان لما يحظى به من قبول على شخصه ومكانته.
صحيح أن تقديم مذهب الولاء على الكفاءة فيما يتعلق بالأفكار يؤدى إلى النجاح وانتشار الفكرة وزيادة التمسك بها، وجماعة الإخوان المسلمين فكرة ولدت على يد الإمام حسن البنا، ولولا الولاء أولاً ثم الكفاءة ثانيًا فى تنفيذ الفكرة ما كان هذا التنظيم الممتد فى عدد كبير من دول العالم، وما كانت هذه القدرة على البقاء حتى الآن.
وثمة عوامل عده تُبرر اعتماد الإخوان لمذهب الولاء قبل الكفاءة داخل تنظيمهم الضيق، منها ما أقره علماء الاجتماع؛ بأن تكوين الجماعات والتنظيمات وكذلك الأحزاب يقوم فى الأساس على مبدأ الولاء، وأيضًا ما هو معايشه للحياة القمعية التى مُورست ضد الجماعة منذ خمسينيات القرن الماضى مما جعلها تعتمد مذهب الولاء أولاً للسرية فى العمل، بل وتُبرر هذه الحياة القمعية لكافة تيارات الإسلام السياسى اعتماد المذهب ذاته والسير على نهجه.
إلا أن المُقلق فى الأمر هو انتقال المذهب من أروقة الجماعة إلى مؤسسات الدولة ليصبح معيارًا لاختيار المناصب العامة، كأن تجد مثلاً الأولوية والأسبقية فى التوظيف بالمناصب العامة فى الدولة للإخوان أولاً أو لمن يدين لهم بالولاء أو لمن يعتبرونه هم من وجهة نظرهم ووفقًا لقواعدهم الذاتية الأصلح، ومن ثم يأتى باقى أفراد المجتمع.
وهناك من المؤشرات الحياتية التى تُثير المخاوف بأن الإخوان قد ينقلون مذهبهم هذا إلى مؤسسات الدولة، فمثلاً أغلب العاملين فى مؤسسات الإخوان الاقتصادية من أبناء الإخوان، وقليلا ما تجد من هو ليس من الجماعة، فهناك أقاويل شعبية كثيرًا ما يُرددها الشارع المصرى كـ"الإخوان مابيشغلوش غير بعض، والإخوانى مبيتجوزش غير إخوانية .. إلخ من الأقاويل".
بالتأكيد قد يؤدى مذهب الولاء إلى بقاء الإخوان فى الحكم عقودًا كالنظام السابق، ولكنه يؤدى فى الوقت ذاته إلى إعادة إنتاج منظومة الفساد الحالية التى لم تنته بعد، وكانت أحد الأسباب الرئيسية فى قيام الثورة، لذا فإن حكم الإخوان سيكون على المحك، مع وجود حزمة من المراقبين لهم، فنجاحهم متوقفاً بشكل كبير على قدرتهم فى الفصل بين أساليب إدارتهم للجماعة وإدارة مؤسسات الدولة وشتان بين هذا وذاك، فإذا أراد الإخوان إدارة الدولة المصرية الجديدة والارتقاء بها إلى الأفضل، وإذا أرادوا أن يذكرهم التاريخ بالخير فعليهم أن ينظروا إلى مصر نظرة وطنية مجردة، وأن يتقبلوا فكرة التكامل مع الآخر، باعتماد مذهب الكفاءات والخبرة لا الانتماءات والولاءات، وذلك بوضع معايير محددة للاختيار فى كافة مؤسسات الدولة يُستعان فيها بخبراء متخصصين كل فى مجاله.
وأخيرًا فهناك حقيقة ثابتة أقرها علماء الاجتماع وأغفلها من بأيديهم السلطة على مر العصور نتمنى ألا يغفلها الحكام الجُدد لمصرنا المحروسة، ألا وهى أنّ كل كفؤ يتخلَّق فى وعيه الباطن ولاء عالٍ للفكرة التى أنضجت إنجازاته"، بينما لا نجد أبدًا أن صاحب الولاء كفؤ بالضرورة.