لى رأى فى الرواية التاريخية قلته يومًا فى أحد مؤتمرات الرواية فى مصر، وهو أننى حين أفكر فى كتابة رواية تاريخية أعمل على أن آخذ الناس إلى هناك. بالطبع أنا أو الكاتب لم نكن هناك، ومن ثم سيكون للتخييل مكانه الأكبر، رغم أن كلمة تاريخ تشى بشىء من الحقيقة. والحقيقة هنا تكون فى الوقائع. والتخييل هنا لا يمكن أن يكون مقنعًا إلا بعد دراسة متعمقة فى المرحلة التى أكتب عنها، أحداثها وأبطالها. والوضع الاجتماعى والاقتصادى والسياسى من حولهم. كل ذلك ليس من أجل إقرار الحقيقة، لكن من أجل الصدق الفنى والإقناع بالتخييل.
وفى كل الأحوال لن بستطيع الكاتب أن يأخذك إلى هناك كاملاً. لكن يكفيه أن تقتنع أو تشعر بالرضا. ليست مهمة كاتب الرواية التاريخية إعادة تفسير الأحداث من منظور معاصر، وخاصة الأحداث السياسية. وهذا ما ولع به كثير من الكتاب. فأخرجوا أبطالهم من قبورهم وحمّلوهم أفكارًا سياسية لبعض القادة أو الاتجاهات السياسية المعاصرة وجعلوهم يتحركون أمامنا بها.
مؤكد أنهم نجحوا فى رسم شخصياتهم لكنهم ارتكبوا إثمًا أخلاقيّا، حيث إن هولاء الموتى لم يكونوا كذلك. كما أنهم كانوا مرتاحين فى قبورهم فمن رخّص للكاتب أن يستخدمهم للإقناع بأفكاره هو. كما أن القضايا السياسية تتغير من عصر إلى عصر. وهكذا تجنح الرواية من هذا النوع إلى أن تكون تعليمية. وهذا يضعها فى دائرة المؤقت العابر وليس فى دائرة الخالد من الفن. من الصعب على هنا أن أضرب الأمثلة لكونى كاتبًا للرواية، وأكتفى بالتعميم وأحسد النقاد الذين لن يفسر أحد اختلافهم فى الرأى بالغيرة وهو أقل تفسير.
تذكرت رأيى هذا وأنا أقرأ رواية الشاعر والكاتب المغربى الكبير حسن النجمى «جيرترود»، وقفز إلى ذهنى هذا السؤال منذ أمسكت بالرواية فى يدى وقرأت عنوانها. والسبب بسيط طبعًا وهو أننى أعرف أن جيرترود شتاين قد ماتت منذ أكثر من نصف قرن.
جيرترود كاتبة أمريكية من جيل الغضب، أو الجيل الضائع، بعد الحرب العالمية الأولى الذى ضم كتابًا مثل هيمنجواى وسكوت فيتز جيرالد وأرسكين كالدويل وفوكنر وغيرهم. هؤلاء الذين خرجوا من الحرب يشعرون بأن العالم يتآكل، صراعاته تقضى على ما أنجز من حضارة، وشعروا بالاغتراب الشديد حتى أن العالم ذلك الوقت شهد ظاهرة كبيرة هى السفر للاتحاد السوفييتى الذى قام على أشلاء دولة انهزمت فى الحرب وأعلن قيام المدينة الفاضلة على الأرض. موجات من الكتاب من أمريكا وأوروبا سافرت إلى هناك لا أعرف ما إذا كانت بينهم جيرترود أم لا، لكن أذكر مما قرأت قديمًا أنه كان من بينهم سوزان سونتاج وأدموند ويلسون من أمريكا. أما من أوروبا فحدث ولا حرج عن الأعداد الكبيرة التى ارتحلت إلى هناك لترى.
هيمنجواى بلا شك كان علامة كبيرة فى هذا الجيل الضائع. وجيرترود كانت علامة كبيرة أيضًا.
لماذا اختار حسن النجمى جيرترود شتاين. أو جيرترود فقط كما جعل العنوان الذى يجعل من صاحبته شيئًا مألوفًا عند القارئ. جيرترود فقط. يجعل العنوان إبداعيّا. جيرترود شتاين يجعل العنوان فكريّا. مدام بوفارى وأنا كارنينا عنوانان يجعلان الشخصيات المتخيلة مألولفة وحقيقية، وكأنك تعرفها من قبل. جيرترود يجعل الشخصية الحقيقية شخصية فنية بما يعنيه ذلك من تخيل. نحن إذن ندخل من باب ناجح. ومن هنا بدأت قراءتى. هل سيأخذنى الكاتب إلى هناك أم سيأخذ معه أفكار عصرنا؟
الشرق شرق والغرب غرب
من قائل هذه العبارة؟ أظنه روديارد كيبلينج الشاعر الإنجليزى المولود فى الهند.. وطبعًا بقية الشطرة الشعرية، ولن يلتقيا. ورغم أنه يقول فى نفس القصيدة: ليس هناك لا شرق ولا غرب، وليس ثمة أصل ولا عرق حيث يلتقى الاثنان وجهًا لوجه أمام عرش الله. إلا أن المعنى الأول ساد وأخذ أشكالاً متعددة آخرها صراع الحضارات. وأظن أن هذا ملمح رئيسى فى الرواية. فرحلة محمد الطنجاوى إلى باريس وعلاقته بجيرترود حكاية انتهت بعودته. تقابلها فى الزمن المعاصر حكاية أخرى. حكاية الكاتب، كاتب الرواية، بالأمريكية التى تعمل فى الدبلوماسية الأمريكية، ليديا ألتمان التى انتهت أيضًا بعد زيارة الكاتب لنيويورك وراء ما تبقى من جيرترود فلم يرى حتى البورتريه الذى رسمه لها بيكاسو والتى كانت تبرعت به لمتحف المتروبوليتان. كان المتحف قد أعاره لمعرض آخر لبعض الوقت. لقد انتهت الرواية وانتهى الزمن من فضلك. وماذا كان يمكن أن يضيف البورتريه لما كتبه حسن النجمى المتماهى مع كاتب سيرة محمد الطنجاوى وجيرترود؟ سيرة؟ هل محمد الطنجاوى شخصية حقيقية؟ بالطبع لا. وربما كان حقيقيّا. فجيرترود المتحررة مثل كثيرات حين يأتين إلى طنجة أو غيرها قد يقمن علاقات عابرة برجال الشرق. كما يفعل الرجال مع النساء. قد تكون هذه العلاقة، وربما هى كذلك بالنسبة للفنانين، نوعًا من التوحد العابر مع حضارة مختلفة.
طعم النساء يختلف فى العالم وكذلك طعم الرجال. بطل موسم الهجرة إلى الشمال كان يرى ممارسته للجنس مع نساء إنجلترا ردّا على احتلال السودان. جيرترود فى علاقتها بمحمد الطنجاوى لا تنتقم بل تتحقق فى مدار آخر. هى من البداية تعرف أنها علاقة عابرة كما يعرف الكاتب أن علاقته عابرة بدانيال. بطل موسم الهجرة مثير بلا شك ولكن جيرترود هنا تضعنا فى أفق إنسانى أرحب. وعلى طول العلاقة كان محمد يعرف أنها عابرة، وحين كانت العلاقة تأخذ شكلاً غير مألوف كأن تطلب من محمد أن يتوسطهما هى وصديقتها أليس طوكلاس فوق السرير فتحقق هى وجودًا للروح مفارقًا لكل عادة.
كان وهو المغربى ينظر إلى ذلك بالمعيار الأخلاقى. لا يرى فى ذلك تحققًا من أى نوع. هى امرأة بملامح ذكورية وملابس ذكورية وتصرفات ذكورية لجرأتها. هى امرأة تبحث عن مدار مفارق للواقع فى سلوكها. وهو الكاتب الذى لم يتحقق يظل فى دائرة الوجود العادى. هو القائل عندما نذهب إلى الآخر ويرفضنا ينبغى أن نعرف كيف نعود إلى أنفسنا.
محمد حاضرًا
حضور محمد كان همّا كبيرًا عند الكاتب. ربما رأى فيه البعض شيئًا من محمد شكرى. ولكنه بالتأكيد ليس محمد شكرى إلا من حيث كونه طنجاويّا ويدخل فى علاقة مع كاتبة أجنبية. محمد شكرى كان يعرف كيف يحقق وجوده فى الفن والحياة. لكن محمد الطنجاوى لم يحقق وجوده فى الفن الذى من المؤكد لو تحقق لكانت لعلاقته بجيرترود آفاق ومعانٍ أخرى. لكن الكاتب يمشى بنا كثيرا وراء محمد وشرح تفاصيل حياته وشرح أفكاره وموقفه من الموت الذى يشغل مساحة كبيرة من الفصل الثانى وحديث الكاتب عن الموت أيضًا.
والفصل الأول بعنوان «محمد» تقديم عريض لشخصيته. لماذا فعل الكاتب ذلك؟ ما الذى يجعله يمشى فى الرواية على هذا النحو وهذا التقديم الواسع العريض للشخص الذى سنراه أمامنا بعد موته فى الأحداث؟ من المؤكد لندرك صمت محمد الغالب عليه بعد ذلك حتى وهو فى قلب علاقته بجيرترود وفى قلب الفنانين الفرنسيين والأدباء من فرنسا وأوروبا ممن أحاطوا بجيرترود. ومن المؤكد لنقتنع أن محمد شخصية حقيقية مثله فى ذلك مثل جيرترود رغم أنه ليس كذلك. كان هذا الوصف أحيانًا يرهقنى فى تصوير الشخصية وتجسيدها، لكن لغة الكاتب كانت ترفعنى بعيدًا عن الإرهاق، خاصة أننى خفت كثيرًا وصرت أقرأ مترصدًا أن أرى أثرًا للشعر فى السرد يأخذنى بعيدًا عن الشخصيات واستمتاعًا بالصور الشعرية التى من المؤكد تثقل أى رواية يكتبها شاعر، وهو ما يحدث عادة دون أن أشير إلى أحد، لكن هنا كنت أقتنع بالسرد. فمحمد المتخيل يمشى على الأرض. ولا يمثل أحدًا بشكل واضح. هو ترك خلفه ابنة عمه «بختة» ولم يجد بخته. وسواء قصد الكاتب ذلك أو لم يقصده فيمكن لك كقارئ أن تقتنع بالمعنيين. معنى الفقد الأسرى ومعنى عدم التحقق هنا أو هناك. فشخصية محمد لا تكمل شيئًا.
الفصول الثلاثة الأولى تجسد محمد بما يكتبه عنه الكاتب وبما يعثر عليه من بقاياه وببحثه عن أسراره التى لا يعرفها أو عن أسرار جيرترود. وتبدأ علاقة الكاتب بالأمريكية ليديا ألتمان فتشعر بأن نهاية واحدة ستكون للعلاقتين. أشعر أنا الذى أزعم إدراكى لشىء من أسرار الكتابة، لكن القارئ العادى يتشوق للرحلة، وهذا هو المهم والكاتب لا يكتفى بتطور العلاقة بل يجسد هذا التماهى بينه وليديا ومحمد وجيرترود فى بعض المواقف أو المشاهد ففى الفصل السادس يقول بوضوح «كانت جيرترود قد فضلت أن تسقط من سريرها الكبير العائم على الموكيت، وترك محمد نفسه يسقط هو الآخر متداعيًا مع الملاءات الملساء الناعمة. «أردت اللحم.. هاهو اللحم يا محمد» ووجهه مزدهر كطفل على صدرها. إلى أن يقول «وأنا أداعب آنستى السمراء ليديا النساء كما ترين لا يدعننا فى سلام»، فتجذبنى نحوها قليلاً كى تقبلنى. تلتصق بى أكثر وكأننا سنبدأ وصلة رقص. وتداعينا معًا فوق السجادة الصوف المتينة.
ويستمر التماهى حتى فى الحوار وكأن مرور الزمن لم يقارب بين الشرق والغرب. ننتقل إلى أوروبا فى العشرينات من القرن الماضى فتأخذنا روح الكاتب إلى روح المكان والزمان والبشر. المدينة باريس والريف. الأشجار والأنهار. المنازل من الداخل والشوارع من الخارج وكل عناصر الحياة وكأنك بينها بالليل والنهار. الجميع يتحركون ومحمد لا يندهش إلا من تصرفات الكتاب والفنانين، ويجد فى حى الغجر أو حيث يقطن الغجر معنى كبيرًا للإنسان الذى لا مكان محدد له ولا صلة، بل يبدو دائمًا العالم كله فضاءه. محمد يحب الغجر لهذا السبب أكثر من أى سبب آخر وكأنه يعلن أنه ليس فى العالمين اللذين يتحرك بينهما، المغرب وفرنسا، يريد أن ينتسب الكتاب والفنانون إلى الغجر فيظن أن بيكاسو له أصول غجرية. من ناحية أخرى فنية فالكاتب الذى يستحضر هؤلاء الكتاب والفنانين يوحد بين المكان وصبواتهم. فهنا فى الريف الفرنسى كان لابد أن تنطلق الحركة التأثيرية. المكان يدفع إلى ذلك. يقول الكاتب: «فى تلك المنطقة التى أنجبت سيزان، لا يمكن للانطباعية أن تكون مجرد اسم لصياغة حديثة، وإنما كانت كتلة من الأحاسيس وطريقة جديدة للرؤية. ذلك الانطباع الذى يعرف كيف يلتقط اللحظة العابرة والأبدية. تلك الرؤية المختلفة للمناظر والأشياء.
للموجودات. للعالم المشبع بالضوء والهواء الأزرق الصافى. تلك الرجفة فى العين. اللحظة الحسية التى تعطى للمرء إمكانية الإحساس بمعنى الإقامة على الأرض». فى الرواية صور حسية وتوحد مع الفنان التشكيلى على طول الوقت. محمد أيضًا كان فنان أرابيسك لم ينجح، والكاتب ينجح فى كتابة مثل الموزايك. هنا ماتيس وبيكاسو وماكس جاكوب وأبوللينير وجان كوكتو وشيروود أندرسون وسكوت فيتز جيرالد وأوجين أولمان وفيرجيل طومسون وغيرهم كثيرون من الكتاب والشعراء والفنانين التشكيليين والموسيقيين وزوجاتهم وعشيقاتهم وسطور منثورة عن علاقاتهم. سطور قليلة عن هذا الذى تركته عشيقته أو زوجته أو هذا الذى كتب ينتقد أمرًا ما أو عملاً ما. سطور قليلة تعطى حيوية للبشر ولا تحولهم إلى أبطال حقيقيين يتحقق وجودهم الكبير كما فعلت مع بعضهم مثل بيكاسوا وماتيس وأبوللينير وبالطبع جيرترود. الكاتب يجيد لعبته مع البشر فهم يتحركون أمامنا وهو يرصدهم أو يترصدهم كما يرصد الغجر والأماكن ومؤجرو الأماكن وغير ذلك مما يجعل الحياة ذلك الوقت تمشى أمامك، أو تجد نفسك مسحورًا وسطها. وهو حين يفعل ذلك لا ينسى أن ينزعك من هذا الوهم الجميل كلما تقدمت فيه فيعود إلى السارد نفسه يحكى كيف عرف ذلك أو تحليله لاستقبال محمد لذلك. انتبه أنت فى رواية. رغم أن محمد استقام أمامك كحقيقة لا تقل عن جيرترود، ورغم أن الكاتب فى النهاية يعود إلى الخداع فيقدم ملحقًا بمصائر من تبقى من الشخصيات الفاعلة كأنه يعود مرة أخرى ليوهمك بأن ما كتبه كان تاريخًا حقيقيّا. تشعر فى النهاية بضياع الجميع محمد وجيريرود وكل شخوص الرواية الذين يعيشون عوالم من إبداعهم أو صنعهم أو صبواتهم. فى هذا يكمن سحر الرواية وفى هذا يلتقى الشرق والغرب.