بعدما دخلتُ عالمَ الكتابة الاحترافية، فانتقلتُ بذلك من خانة «القارئ» إلى خانة «الكاتب»، اتخذتُ قرارًا يحملُ قدرًا من المخاطرة، أنْ أعيدَ قراءةَ بعض الكتب التى كنتُ قرأتها فى مراحل تشكّل وعيى الأول، فأعجبتنى، أو شغلتنى، أو أربكتنى، أو أزعجتنى، أو أذهلتنى، وأنا بعدُ صبيّة صغيرة، تتعرّف العالم من خلال عيون الكُتّاب والفلاسفة والأدباء، الذين خبروا الحياةَ قبلها، وكوّنوا فيها رأيًا، خطّطتُ، من أجل ذلك، برنامجًا منظّمًا؛ بحيث أزجُّ، داخل برنامج القراءة الاعتيادية للكتب الجديدة، برنامجًا إضافيّا أستعيدُ خلاله قراءاتى القديمة. أحّددُ كلَّ شهر كتابًا، أو مجموعة كتب لكاتب، لأعيد قراءته، الذى وددتُ أن أَخْلُصَ له هو: هل استقبالى لهذا الكتاب أو ذاك، الآن، بعدما غدوتُ متورطةً فى مطبخ الكتابة، هل يتشابه أم يختلفُ، أم يتناقض، مع استقبالى له فيما مضى، حينما كنتُ قارئة مُستقبِلَة، لا مُرسِلة، لا أدرى عن أسرار الكتابة ومفاتيحها؟ هل مَن كنتُ أتيهُ به غرامًا من الكُتّاب، سيظلُّ فى مكانه ومكانته لدىّ، أم ستتدخل عينٌ جديدة أكثر وعيًا وانتقادًا فتُزعزعُ ذلك المكان، وتخلخلُ تلك المكانة؟
حين بدأتُ التجربةَ لم أكن أدركُ أن ثمة مُخاطرةً بالأمر، أو مقامرة. إن هى إلا لعبةٌ لتنشيط الذاكرة واستعادة نوستالجيا المتعة بما مضى، وكذا استعادة معارفَ غابرةٍ طمرتها معارفُ جديدة، وممحاةُ الزمن، على أننى أدركتُ هَول ما أنا مقدمةٌ عليه، بمجرد أن فتحتُ الصفحة الأولى من سلسلة كتب أديب مصرى خمسينىّ رومانسىّ شهير، كانت رواياته توزّع بشكل مذهل وتُحوَّل إلى أفلام سينمائية رأسًا بمجرد ظهورها بالأسواق، منذ الصفحة الأولى هالتنى فداحةُ أخطاء اللغة من نحو وصرف، فارتعبتُ! لم أرتعب من جهلى القديم، الذى مرّر تلك الأخطاء البدائية، ولا ارتعبتُ من إلحاح سؤال مشروع: كيف مرّت الأخطاءُ على الكاتب، وعلى الناشر، وعلى النقّاد، وعلى الضمير الأدبىّ، فاعتلى تلك المكانة وهو بعدُ لم يتعلّم أسرارَ اللغة؟ بل كان ارتعابى ذاتيّا وبرجماتيّا. خِفتُ، لو أننى استمررتُ فى تلك التجربة الرعناء، أن أشهدَ «أصنامى» القديمة تتهاوى أمام عينى، صنمًا إثر صنم، إلى أن أفقد أيقوناتى جميعًا فى الأخير، فأغدو فى العراء من دون محراب أدبىّ يُؤوينى ويجمعُ شتاتى.
فعدلتُ عن إتمام التجربة، مكتفيةً بوهم جميل، عن واقع مزعج. وبعد بعض تأمل، عدلتُ عن عدولى: لماذا لا أتمم التجربةَ لأرى مَن سينجو، ومَن سيهوى، غيرَ مأسوفٍ عليه!
شرعتُ فى تجربتى من جديد، متّبعةً الاستراتيجية ذاتها، لكن مع تعديل «روح» التكتيك. إذْ تسلّحتُ بمبدأ ألزمتُ نفسى به لا وجود لكلمة «صنم» فى دنيا الأدب. تخلّصتُ من وهم خائب اعتمرته طويلاً يقول إن كلَّ أديب هو بالضرورة ساحرُ كلمات ومروّضُ بلاغة ومالكُ مفاتيح لغة! تسلّحتُ بعبارة قالها لى يومًا الشاعرُ العراقى الكبير سعدى يوسف: يا فاطمة، الشعرُ «بعييييد» بعيد، ونحن، كلَّ الشعراء، نسعى إليه منذ الأزل حتى نطاله، ولن نطاله!
أعدتُ قراءة تراثى القديم، فصمد كُتّابٌ وصمدت كتبٌ؛ مثل شكسبير وأوسكار وايلد والميثولوجيا الإغريقية وأغانى الأصفهانى وطه حسين ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود وسواهم، وكذلك تهاوى أدباء آخرون، وسقطت بعضُ قشور سطحية عن أدباء آخرين ليبقى نُسغُهم الجميل مشرقًا ألِقًا، أما الذى صمدَ بنسبة مئة فى المئة ولم يفقد شيئًا من دهشتى القديمة به من بين أصحاب القلم، فلم يكن سوى جبران خليل جبران. الشاعر، والأديب، والفيلسوف، والرسّام، اللبنانى، قرأتُ كتاب «النبى» أكثر من خمسين مرة، تقريبًا لا يمرُّ عام دون أن أعيد قراءته مرتين على الأقل، ولم أفقد مرةً متعتى، فسلّمتُ بأنه عابرٌ الزمنَ، شأن الفنانين والعلماء والفلاسفة الحقيقيين.
وها أنا ذا، كما ترون، جلستُ إلى مكتبى لأكتبَ عن جبران، بمناسبة عيد ميلاده الذى يحلُّ هذه الأيام «6 يناير 1883 - 10 أبريل 1931»، فانتهت مساحةُ مقالى دونما أتكلم عنه، إلا بالإشارة السريعة! فللقلم شؤونٌ! يسوسُنا ولا نسوسه! والحقُّ أن جبران يستحق العديد من المقالات والكثير من الدراسات والكتب، ربما أقدرُ على ذلك يومًا. اقرأوا جبران وتعلّموا جمال الحياة والبشر ومن قبلهما جمال الله تعالى خالق الحياة والكون وربّ الناس، ملك الناس، إله الناس.