كوبرى قصر النيل من أعلى وهو مكتظ بالمصريين متراصين زاحفين هادرين كأنهم بنيان مرصوص، صورة خالدة لا يمكن أن تسقط من الذاكرة. أنا شخصيا أهتز وأشعر بحالة من الشجن النبيل، وتطوقنى أبخرة الذكرى، وأطياف النضال، وعشق الأوطان، وأتذكر كل صور الشهداء كلما استدعيت كوبرى قصر النيل.. الصورة ممتدة يا شعب مصر، قادمة منذ أكثر من قرن، ولعلكم تتذكرون المشهد أو المنظر الأخير فى فيلم «فى بيتنا رجل»، كان عمر الشريف يزحف ليفجر معسكرات الإنجليز فى ثكنات قصر النيل، هكذا سجل المشهد روائيا إحسان عبدالقدوس، كما صاغه أدبياً ودرامياً نجيب محفوظ فى الثلاثية، أما إذا عدت لمذكرات عبدالرحمن فهمى، قائد التنظيم السرى لثورة 19، وعريان سعد القبطى الذى تطوع لاغتيال يوسف وهبة، رئيس وزراء مصر، عميل الإنجليز، فحتماً ستعرف أن قصر النيل كان رمزا لمقاومة المستعمر، وبسالة الثوار وتضحية الشهداء، لذلك عندما ربطت صورة كوبرى قصر النيل فى جمعة الغضب 28 يناير 2011، ورأيت المجنزرة أو المدرعة تدهس زهرة شباب مصر، وأنا كنت مع أسرتى على بعد خطوات قبل الكوبرى، ثم عندما شاهدت المشهد عشرات المرات على الشاشة صرخت، وقلت ياسبحان الله من أين أتى هؤلاء؟.. هل عادوا؟!.. هل هم قادمون ليحرروا مصر مرة أخرى؟.. نعم إن الذين استشهدوا هم أبناء الجراحى، وأمينة محمد «أول شهيدة لثورة 19»، وعبدالمنعم رياض، وإبراهيم الرفاعى، وسليمان خاطر، وغيرهم من عقد الفل المصرى الذى امتزجت دماؤه بتراب مصر، وبماء النيل عند كوبرى قصر النيل.
لكل ذلك أعتبر الصلاة التى صلاها المسلمون والمسيحيون على كوبرى قصر النيل صلاة حب للوطن، وصلاة وفاء للشهداء، ليظل كوبرى قصر النيل واحدا من أعظم رموز الفداء والانتماء لك يا مصر.. ولدى اقتراح أرجو أن يؤخذ به، وهو أن يوضع نصب تذكارى عند الأسدين فى مدخل الكوبرى من التحرير، عليه أسماء الشهداء، أتمنى أن تتبناه جمعيات أسر الشهداء وأصدقائهم، لأن التعويل على الحكومة فى مثل هذا «خيبة بالويبة».
لبيب السباعى
كانت آخر كلمات لبيب السباعى عدم نسيان الشهداء، والاهتمام بأسرهم، خصوصا الطلاب، وهم أغلبية الشهداء، وأنا أقرأ كلماته بعد رحيله اندهشت من قدرة هذا الكاتب المحترم المصرى حتى النخاع أن يتذكر الطلاب، وقضية التعليم فى مصر، وتبقى رسالته الرائعة بعد رحيله.. لم أقرأ فى حياتى صرخة من أجل تصحيح التعليم الذى هو قطار السلامة الوحيد لمصر إلا من لبيب السباعى. عشرات السنين والرجل يصرخ فى البرية، أتمنى من وزير التعليم، بل من كل وزراء الحكومة أن يقرأوا مقالاته، ففيها دستور إصلاح مصر.. رحمك الله ياعم لبيب.