بقدر ما أحدثته ثورة 25 يناير 2011م من تغيرات داخلية لا يمكن إغفالها، أحدثت كذلك نقلة فى السياسة الخارجية المصرية، جعلتها تعود تدريجيًا إلى ثوابتها الأصلية التى أمْلَتْها عليها جغرافيتها وتاريخها العميق.
وقبل قراءة تفاصيل التحركات المصرية نحو المحيط الخارجى خلال عام الثورة، دعونا نؤكد أولاً بأن موقف «مصر» بعد الثورة تجاه قضاياها الخارجية اتسم بالتوافق الشعبى والرسمى معًا، الأمر الذى قلّما تجده فى أى بلد آخر، وبالتالى تزايد احتمالية عودة الريادة المصرية فى وقت قياسي.
والمتابع للخارجية المصرية منذ اندلاع ثورة يناير وحتى الآن، يَلْحظُ أنها استعادت البعض من عافيتها وأزاحت «ركام الهدم» الذى تركه النظام الفائت، باجتيازها اختبارات عدة تتعلق بقدرَّتها السّياسيّة الجديدة، كاختبار تمسكها بمصرية منصب الأمين العام للجامعة العربية، وكذلك اختبار قدرّتها على احتضان القضايا العربية من جديد، فسجلت حضورًا قويًا فى مشروع المصالحة الوطنية الفلسطينية، ودورًا فاعلاً فى اتمام صّفقة تبادل الأسرى بإطلاق سراح 1027 أسيرًا فلسطينيًا مقابل الجندى «جلعاد شاليط».
وبخلاف ذلك، نجحت «مصر» فى اختبار الكرامة بانتزاعها اعتذار رسمى إسرائيلى عن مقتل ستة من رجال الشرطة المصرية فى 18أغسطس 2011م، وهو ما أكده بيان مكتب «إيهود باراك» الذى جاء فيه نصًا ((بناء على نتائج التحقيق، قرر «باراك» الاعتذار عن مقتل كل شرطى مصرى بالنيران الإسرائيلية أثناء تأديته الخدمة)).
ويبدو أن الملف الأفريقى حظى هو الأخر بقسطٍ كبير من الاهتمام بعد الثورة؛ إذ استطاعت «القاهرة» إعادة وصل الأوتار الأفريقية المقطوعة، وذلك بعد تعالٍ وتجاهل وإهمال دام عقودًا؛ فجاء الموقف المصرى سواء على المستوى الشعبى (زيارة الوفد الشعبى لأوغندا فى أول إبريل، ولأديس أبابا في29 أبريل2011م، والسودان بشقيه الجنوبى والشمالى 6-9 مايو2011م) أو على المستوى الرسمى كجولات رئيس الوزراء السابق «عصام شرف» لكل من السودان وأوغندا وإثيوبيا، ليؤكد بأن «القاهرة» تُريد إزاحة ستار الماضى عن ساحتها الخلفية، وتقديم رؤية جديدة لأفريقيا بخاصة دول حوض النيل.
والواضح أيضًا أن عام الثورة شَهِدَ نجاح الخارجية المصرية فى عودة العلاقات بإثيوبيا أحد الأضلاع القوية فى دول حوض النيل، وإزالة حالة الشك والريبة فى العلاقات معها، والتى توجت بزيارة رئيس الوزراء «مليس زيناوى» إلى «القاهرة»، كما تحاول «القاهرة» من جهة أخرى إيجاد صيغة توافقية على البند المختلف عليه بالاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل، وكذلك نجحت فى إعادة أنشطة دول الحوض الشرقى (مصر والسودان وإثيوبيا) التى توقفت قبل الثورة بسبب الخلافات إلى الحراك مرة أخرى، فعقدت فى القاهرة شهر مايو 2011م أعمال اللجنة المشكلة من الدول الثلاث حول تقييم سد الألفية.
وأمام التنامى المُلاحظ للدور المصرى عقب الثورة فى محيطها الجغرافى، لم تُقدم «مصر» لبلدان الربيع العربى ما كان متوقعًا بحكم التشابه فى الحالة الثورية، ولكن كان الإفراط فى الحذر من اتخاذ أى خطوات أو تبنى مواقف هو السمة الغالبة للسياسة المصرية إزاء قضايا الربيع العربى.
فالموقف المصرى من الثورة السورية لم يكن بالوضوح الكافى، ولم يخرج عن إطار البيانات المليئة بعبارات القلق والمتابعة والاستهجان، فى حين عبرت مواقف دول عربية أخرى عن وضوح وقرارات حازمة كالسعودية والكويت والبحرين بسحب سفرائهم من دمشق اعتراضًا على المجازر هناك، ناهيك عن الموقف المصرى بشأن تعليق عضوية سوريا فى الجامعة العربية وتفضيلها الوساطة بين مؤسسة الحكم فى «دمشق» والمعارضين الموجودين فى الخارج والمتمثلين حاليًا بالمجلس الوطنى السورى.
وفيما يتعلق باليمن، لم تُقدم مصر دعمًا حقيقيًا ملموسًا للثورة اليمنية يمكن الارتكان عليه، بل هناك من المواقف ما يؤكد وجود ارتباك دبلوماسى فى التعامل مع الربيع اليمنى، وخير دليل على ذلك الكلمة التى ألُقيت فى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة من قبل شخصية دبلوماسية مصرية تحمل درجة سكرتير ثالث فى الأمم المتحدة وأغضبت الثوار اليمنيين، ورغم قول الخارجية المصرية بأن الكلمة لا تُعبر عن وجهه نظر الدولة المصرية الداعمة للثورة اليمنية، فإن الكلمة تقود إلى وجود خلل دبلوماسى حقيقى، فكيف لشخصية دبلوماسية على هذه الدرجة لا تعرف موقف بلدها إزاء قضية ما؟!
علاوة على ما سبق لم يكن الموقف المصرى من الثورة الليبية على النحو المأمول، ولا على مستوى دعم الدول الأوروبية وبعض الدول العربية مثل قطر، فمنذ اندلاع الثورة فى ليبيا، ظل التأثير المصرى باهتًا طوال مدة الثورة إلا فى مواقف قليلة.
وللإنصاف فإن الموقف المصرى الرسمى الحذر فى التعامل مع الثورة الليبية له مبررات شبه مقبولة منها على سبيل المثال الخوف على العمالة المصرية فى ليبيا (حوالى مليون ونصف المليون) من بطش القذافى وأعوانه آنذاك.
وأخيرًا يمكن القول إن مجمل التغيرات السابقة بإيجابياتها كتدفئة مصر لعلاقاتها بالقضية العربية الرئيسية، ألا وهى القضية الفلسطينية، وكذلك إزالتها للحواجز المؤدية لأفريقيا، وأيضًا سلبيتها فى التعامل مع قضايا الثورات العربية، أخرجت مصر بصورة مبدئية من قمقم العزلة العربية والأفريقية الذى ظلت حبيسة بداخله فى العهد السابق، ولكن مازال الخروج بطيئًا وبحذر شديد، لاسيما فى القضايا البعيدة عن أمنها القومى المباشر، ولا يمكن العيب على ذلك لأن الدولة المصرية فى بدايات التغيير ولم تتحدد بعد ملامح سياستها الداخلية والخارجية، فلم يتحدد بعد شكل البرلمان القادم، وما سوف يُفرزه من دستور مرتقب للبلاد، وبالتالى فإن السياسة الخارجية المصرية على الرغم من أنها ما زالت فى مرحلة التبلور بعد 25 يناير، إلا أن الملموس حتى الآن يؤكد أنها ستكون أكثر فاعلية وتأثيرًا، وهو ما يصب لصالح مصر والمنطقة العربية بأكملها.