لسنوات طويلة جدا، اصطحبنى صوت القارئ العظيم مصطفى إسماعيل إلى عوالم السكينة والدهشة والمفاجأة، وأخذ بيدى فى محطات من العمر لم تكن فيها الأحوال كما ينبغى، وأعتبر نفسى مدينا له لأنه صاحب فضل، وأسعى قدر المستطاع إلى نشر تسجيلاته «وخصوصا النادرة» بين من أحب، ومع هذا أحن بين الحين والآخر إلى أصوات عالية تنتمى لجيله، وأذهب إلى صوت القاهرة والعتبة والحسين أفتش عن تسجيلات لهم، مثل عبدالفتاح الشعشاعى ومحمود على البنا ومنصور الشامى الدمنهورى والمنشاوى وعبدالباسط عبدالصمد وغيرهم من الذين جعلوا مدرسة التلاوة المصرية شاهدة على رقة وعظمة ومحبة المصريين لكتاب الله والدين الحنيف، لكل واحد منهم بصمة وطريقة فى الدخول إلى القلب، تميز أصواتهم من بعيد، وتتمنى أن تبذل وقتا أطول مع كل واحد على حدة، لكى تشبع من هذا الفيض وهذا الجلال، وخصوصا بعد أن حاصرتنا الأصوات البعيدة اللامعة البكاءة التى لا تشبه أشواقنا، ولا تلتزم أصول فن التلاوة، وقبل رمضان الفائت بيومين كنت أجلس فى مقهى بالجمالية، وإذا بصوت الشيخ الشعشاعى يطل من إذاعة القرآن الكريم فى تسجيل نادر، شعرت أننى مقصر فى حق نفسى، جعلنى أستدعى مشاعر طفولية صافية، وذكرنى بأصوات لم تذهب إلى الإذاعة صادفناها، ولكنها حفرت فى الواحد منا أجمل ما فيه، تخيلت نفسى أتجول أيام الصبا قبل الامتحانات حول حقول قريتى حاملا الكتب، وفى العودة مع المغرب أو العشاء، تجد رجلين أو ثلاثة فى مصلى «مصلية» مبللين من الوضوء ويدفعون رجلا بسيطا ليكون إماما لهم، لا تعرف من أى حديقة جاء صوته، يقرأ فتشعر بطزاجة القرآن، هو ينهل من كل ما هو جميل فى الكون، هو غير معنى بشىء آخر غير نقل المعنى بفطرة نقية وصوت نقى وروح طيبة، عندما هل الشعشاعى هذه المرة أعادنى إلى تلك اللحظات الصافية فى طفولتى وصباى، صوته «فلاحى» أصلى، يجمع بين آلتى التشيلو والأرغول، قادم من دهاليز الحكمة المجردة والحسم المحبب، لا يبحث فى النغم قدر ما يبحث فى المعنى، متدفق مثل النيل وقوى وحنون فى الوقت نفسه، كنت أعتقد أن تسجيلاته نادرة، ولكنى فوجئت وأنا سعيد أنه موجود على اليوتيوب بوفرة، وأن محبيه فى العالم العربى أكثر مما أحلم، وتتبعت سيرته الغنية منذ مولده فى قرية شعشاع فى المنوفية فى عام 1890 وحتى وفاته قبل نصف قرن فى 11 نوفمبر 1962، وكيف تربى فى المعهد الأحمدى بطنطا وانتقاله إلى القاهرة وتعلمه فى الأزهر، لقد وصل القاهرة فى زمن كان فيه نجوم فن التلاوة بالعشرات، كان أحمد ندا ورفعت العظيم والصيفى وعلى محمود وغيرهم يظللون سماء القاهرة بكلام الله، ولم يجد الشيخ مكانا فى البداية، فقرر أن يكون فرقة للتواشيح لإحياء حفلات الزواج والطهور وما إلى ذلك، وكان بين فرقته هذه الشيخ زكريا أحمد صاحب الروح الجميلة، الاثنان تجمع بينهما الفراسة والبداهة وعمق الصوت، وكان كل واحد منهما يريد أن يحقق حلمه، أن يعود الشيخ عبدالفتاح لقراءة القرآن وأن يتجه الشيخ زكريا إلى التلحين، وهذا ما حدث، فى الليلة الكبيرة لسيدنا الحسين تجلى الشعشاعى فى ليلة كان فيها رفعت وندا وعلى محمود، فتلقفته الآذان، فتوقف عن التوشيح سنة 1930، وبعد ست سنوات كان ثانى قارئ فى الإذاعة بعد رفعت، وبعد أن أخرج له مدير الإذاعة سعيد لطفى فتوى شيخ الأزهر الأحمدى الظاهرى التى تجيز القراءة فى الإذاعة، وكان أول من قرأ بمكبرات الصوت فى مكة والمسجد النبوى سنة 1946، وقرأ فى مأتم فؤاد الأول مع رفعت ومحمد الصيفى وعلى محمود، وفى مأتم سعد زغلول، وفى مأتم الملكة عالية فى العراق، وقرأ مرة واحدة سنة 1943 فى قصر عابدين، وعندما سمع أن فاروق كان يعبث فى أحد الأجنحة أثناء التلاوة فى رمضان، رفض الذهاب مرة أخرى، عبدالفتاح الشعشاعى صوت نادر على مقاس مزاج الفلاحين، لأنه صوت قديم وجذوره متشعبة ونبرته مقنعة، وفتح الله عليه من أوسع الأبواب.. وفى هذه الأيام التى ليست فيها الأحوال كما ينبغى.. أستظل بصوته القريب.