يعد إنشاء حزب النور إنجازا متميزا للمدرسة السلفية السكندرية وهو أول عمل سياسى لهذه المدرسة التى نأت بنفسها عن المشاركة السياسية أكثر من ثلاثين عاما كاملة اهتمت فيها بالدعوة والتربية والعلم الشرعى وحققت فيها نتائج جيدة وربت فيها أجيالا متميزة من الدعاة والعلماء والمربين والذاكرين والعابدين، وكان ابتعادها عن السياسة طوال هذه الفترة عاصما لها من أى ملاحقات أمنية أو اعتقالات أو محاكم أو تضييقات، إلا فيما ندر، ويعد د.عماد عبدالغفور صاحب فكرة تأسيس حزب النور، وكذلك مشاركة السلفيين فى الحياة السياسية بكل أشكالها والمنافسة السياسية القوية للآخرين، وسريعا وعلى عجل تكون حزب النور من أبناء الدعوة السلفية والمتعاطفين معها هنا وهناك وبسرعة البرق انطلق هذا الحزب فى سماء السياسة المصرية وحقق نجاحات سياسية سريعة رفعته إلى منصب الوصيف فى البرلمان، وأبرز الحزب كوادر سياسية متألقة على رأسها د.عماد عبدالغفور نفسه ونادر بكار ود.يسرى حماد وغيرهما ممن استطاعوا أن يجمعوا بسرعة فائقة بين الواجب الشرعى والواقع العملى جمعا ً لا يخل بأحدهما.
ولكن الحزب بدأ يتعرض للنكبات، الواحدة تلو الأخرى، وكل نكبة تأتى بعد اختبار سياسى بسيط فى حقيقته، ولكنه خطير فى عرف من لم يخبروا السياسة من قبل، ولم يدركوا أسسها من قواعد الحزب الناشئة والشابة، فقد جاء ترشح الشيخ حازم أبوإسماعيل وخطابه الملتهب وحماسته المتدفقة وثوريته ضد المجلس العسكرى ليلهب مشاعر القواعد فى حزب النور الوليد، فى الوقت الذى رأى فيه قادة الحزب ومنهم عبدالغفور وبكار ومعظم قادة السلفية أنه ليس الأجدر بالرئاسة، وأن الثائر الجيد ليس بالضرورة يكون حاكماً جيدا، وأن الدعوة غير الدولة، ومن يصلح للأولى قد لا يصلح للثانية.
ولكن هيهات لقواعد الحزب أن تدرك ذلك بعد أن دغدغت عواطفها بالخطاب الملتهب الذى يحل كل مشاكل الإسلام والوطن فى نصف ساعة، فهددت القواعد بالانسحاب من الحزب وتسليم المقرات لأنصار أبوإسماعيل حتى كاد حزب النور أن يضيع تماما مع أول وأسهل اختبار سياسى لأن قواعده ببساطة لم تكن على دراية بالواقع المصرى من ناحية، أو بالفرق بين الخطابة والواقع أو بين الثائر والحاكم، أو بين الداعية والسياسى، أو بين الحلم والحقيقة من ناحية أخرى، وقد كان استبعاد أبوإسماعيل هو طوق النجاة للحزب من الانهيار الكامل.
ثم جاء اختيار الحزب لدعم د.أبوالفتوح فى سباق الرئاسة اختبارا آخر لإعادة تقسيم الحزب وشرذمته مرة أخرى فقد رفض قادة بارزون فى الحزب والدعوة السلفية السكندرية هذا الاختيار ورأوا أن د.محمد مرسى هو الأولى بذلك لأن وراءه جماعة قوية تستطيع حمايته وعونه قبل الحكم وبعده وأنه أقرب إلى الفكرة السلفية من د.أبوالفتوح الذى يعده البعض منهم أقرب إلى الجمع بين الإسلام والليبرالية فى منظومة واحدة، فضلا ًعن أن بعض خطابات أبوالفتوح فى أثناء الانتخابات لم تعجب فصيلا من الحزب وشيوخ السلفية، ولكن الله أنقذ الحزب مرة أخرى بعد فشل أبوالفتوح فى الصعود إلى الماراثون النهائى للرئاسة وكأن الله ينقذ الحزب فى كل مرة من الانهيار، ولكن ليس فى كل مرة تسلم الجرة.
لقد كان حزب النور رغم حداثة نشأته واعيا ً لفكرة الدولة وأنها تقوم على التوافق السياسى بين أطياف الوطن المختلفة وأن الدولة تختلف عن المدرسة السلفية التى تقوم على الولاء والبراء الدينى ولا ينتسب إليها إلا من كان جامعا لكل ثوابت الإسلام، بل ومعظم متغيراته التى توافقت عليها المدرسة السلفية، أما الدولة فالانتساب لها هو للمقيمين على أرضها أو للتجنس بجنسيتها وللتمتع بحق المواطنة فيها، وقد كان الحزب واعيا ً لقضية المراجعة والنقد الذاتى والاعتراف بالخطأ وهذه فضيلة عظمى لم تتمتع بها أحزاب وجماعات عريقة، فقام الحزب بفصل البلكيمى مباشرة فور تأكده من حقيقة أمره.
لقد كان حزب النور رائدا ً فى أشياء كثيرة رغم صغر عمره، ولكن لماذا حدث هذا الانهيار المفاجئ للبعض!. فالحقيقة أن هذا الانهيار لم يكن مفاجئا ً ولكنه كان متوقعا ً منذ ستة أشهر تقريبا من كل من يتابع الشأن السياسى المصرى، فالسلفية الآن بين مطرقة الآباء المؤسسين وسندان السياسة وواقعها المتغير باستمرار. وحزب النور أيضا يقع بين سندان الآباء المؤسسين للسلفية وبين الأجيال الجديدة التى تريد تحرير الحزب من ربقة المدرسة السلفية وأدبياتها القديمة التى يرى مؤسسو الحزب الجدد أنها لا تصلح للحياة السياسية.
إنه صدام بين رؤيتين.. رؤية د.ياسر برهامى الداعية والمربى الشهير وبين د.عماد عبدالغفور ونادر بكار الساسة الجدد الذين يريدون ربط الواجب الشرعى بالواقع العملى والانطلاق من متغيرات الشريعة إلى العمل بها فى دنيا السياسة دون المساس بثوابت الشريعة أو الاصطدام بها.
لقد كان هناك هاجس سلبى لدى المدرسة السلفية، وهو أنهم يريدون أن يسابقوا الإخوان أو يقولون للناس انظروا نحن أفضل من الإخوان وأقوى منهم، ناسين أن صاحب تجربة الثمانين عاما فى السياسة والدعوة لن يتفوق عليه أبدا ً صاحب العامين فى السياسة وهذا الهاجس أضر بالمدرسة والحزب معا، لقد أرادت السلفية اختصار الزمن والقفز على سنة التدرج الماضية فى الكون كله رغما ً عن الجميع، ولكن هيهات أن يحدث ذلك.
إن الانتقال من المسجد الذى لا يحوى أى مغريات دنيوية وفيه من السكينة والزهد ما فيه إلى السياسة بمناصبها ومغرياتها وأموالها..و..و.. فجأة ودون سابق إنذار أو تدرج ليس سهلا ولا يسيرا.
إن الدعوة إلى الله تجمع والسياسة تفرق.. فى المسجد تقول تعالوا إلى الله.. وفى السياسة تقول: انتخبونى.. انتخبونى.. لن أتنازل لغيرى.. أنا الأفضل.. أنا الأقوى.. أنا الأحكم. فى المسجد تقول: ربى.. ربى.. وفى السياسة تقول: نفسى.. نفسى. والانتقال من هذه لتلك دون صقل للنفوس ودون تربية حقيقية تدريجية قد يدمر النفوس ويخرج أسوأ ما فيها، وقد قال السلف: «آخر ما يخرج من نفوس الصديقين حب الرياسة».. «أى السلطة»، لقد أقحم بعض الدعاة والمربين أنفسهم فى دوامة العمل السياسى دون أن يدركوا أى شىء عن آلياتها وعلومها وأدبياتها.. فطالتهم السهام الطائشة وتلوثت سمعتهم ونالهم الأذى والسوء.. وأخيرا ً تركوا ما يحسنون من الدعوة ولم ينجحوا فى السياسة.
إن المشروع الدعوى والتربوى والإصلاحى للحركة الإسلامية قد يكون أهم وأبقى من مشروعها السياسى الذى يتكالب الجميع على مناصبهم وقد يتحول بعد عشر سنوات إلى صراع سياسى إسلامى إسلامى أشبه بصراع الأمويين بالعلويين، لقد كان المسجد يستر العيوب ولكن السياسة فاضحة.. تفضح من لا يكون له عيب.. فكيف بمن كان فيه عيب.. وفى الختام تمنياتى لحزب النور بالخير وأن يقوم سريعا ً من كبوته.