فى أعقاب ثورة 1919 أعلن الإنجليز استقلال مصر دولة ملكية دستورية بمقتضى تصريح 28 فبراير 1922، وعلى الفور تم تشكيل لجنة لوضع الدستور، وكان مفتى الديار المصرية الشيخ محمد بخيت عضو بهذه اللجنة التى بدأت اجتماعاتها فى 19 أبريل 1922، وفى أحد اجتماعات اللجنة اقترح المفتى أن ينص فى الدستور على «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية»، فلم يعقب أحد من الأعضاء عليه، غير أن وضع هذه المادة المقترحة تحت رقم 149 من أصل 170 مادة إجمالى مواد الدستور، وفى الباب السادس (أحكام عامة) وليس فى الباب الأول (الدولة المصرية ونظام الحكم فيها)، يشى بعدم رضا اللجنة عن وضع مادة بهذا المعنى، خاصة أن ثورة 1919، وحدت بين أبناء الأمة (الهلال والصليب)، فإذا راجعنا أحداث ثورة 1919 سوف نكتشف لماذا اقترح الشيخ محمد بخيت هذا النص فعندما اندلعت الثورة فى أرجاء مصر أخذت بعداً اجتماعياً ضد كبار الملاك فى الريف من أجل العدالة (راجع كتاب فكرى أباظة: الضاحك الباكى) وكانت الأفكار الاشتراكية قد تسربت إلى مصر وأصبح لها دعاتها، ولأن السلطات البريطانية كانت تخشى من أن تنتهى الثورة إلى تولى الاشتراكيين الحكم فى مصر مثلما حدث فى روسيا حين استولى الشيوعيون الروس على الحكم هناك قبل ذلك بعامين فقط (أكتوبر 1917)، فقد سربت تلك السلطات سؤالاً للمفتى عن رأى الدين فى البلشفية (وكانت الثورة الشيوعية فى روسيا تعرف بالبلشفية)، فأصدر المفتى فتواه بتاريخ 18 أغسطس 1919 قائلاً: «إن طريقة جماعة البلشفية طريقة تهدم الشرائع السماوية، وعلى الأخص الشريعة الإسلامية»، فما كان من الشيوعيين المصريين إلا أن هاجموا المفتى فى منشور عنوانه «اعتنقوا البلشفية أيها المصريون» جاء فيه أن البلشفية لا تخالف الإسلام فى شىء، فالدين يدعو إلى العدل والمساواة وحرية التدين.. وهكذا نجحت السلطات البريطانية فى توظيف الدين لخدمة أغراض سياسية. فلما تشكلت لجنة لوضع الدستور فى أبريل 1922 كان الحزب الشيوعى المصرى قد أعلن فى أغسطس 1921، وكان الشيخ بخيت ما يزال فى منصب الإفتاء، ومن هنا اقترح النص الذى جاء بإيعاز بريطانى، كما لاحظنا من سياق ظروف إصدار الفتوى.
واللافت للنظر أن هذه المادة ظلت موجودة فى كل الدساتير التى صدرت بعد ذلك، مع اختلاف فى ترتيبها، فقد أصبحت رقم 138 فى دستور 1930 من أصل 156 مادة، وفى ذات الباب السادس (أحكام عامة)، ورقم 159 من أصل 200 مادة فى مشروع دستور 1954، وفى الباب العاشر «أحكام عامة»، ثم أصبحت رقم 3 فى دستور 1956 الباب الأول (الدولة المصرية)، واختفت من دستور مارس 1958 بعد الوحدة مع سوريا، ثم عادت للظهور فى دستور مارس 1964 برقم 5 الباب الأول «الدولة»، ثم تصدرت دستور سبتمبر1971 برقم 2 وأضيفت لها عبارة «ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع» بتعديل تم فى 22 مايو 1980، فشد ذلك التعديل من أزر التيار الإسلامى الذى أصبح يطالب بتفعيل المادة عندما اكتشفوا أن النص عليها لم يترتب عليه أى تغيير فى التشريعات القانونية التى ظلت على طابعها المدنى، وهذه المادة أصبحت مثار الجدل الدائر حاليا فى لجنة تأسيسية الدستور الجديد، من حيث حل التناقض بينها وبين القول بأن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، ولا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، وبعد.. لماذا لا يفكر واضعو الدستور الجديد فى ما يجمع بين المصريين على مستوى المواطنة بدلاً من تفرقتهم على مستوى العقائد!.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة