بصرف النظر عما حوته جمعة «مصر مش عزبة» من شعارات، وهتافات، وخطب، وأغنيات امتلأت بسباب وبذاءات لأشخاص وكيانات، وبأسلوب يعاقب عليه الشرع والقانون، وبغض الطرف عن حوارات ولقاءات أجريت مع كثير ممن شهدوا تلك الجمعة، ظهر منها بوضوح أن بعضهم للأسف لم يكن يعرف تحديدًا لماذا نزل! لدرجة جعلت أحدهم وقد عرَّف نفسه بكبير مشجعى «نادى» الأولتراس يصيح بحماسة ثورية شديدة: «لابد من رفع الظلم وعودة الحزب الوطنى فمصر دولة (مستقمَّة)»!! وآخر رأى بإصرار أن يغادر الرئيس المنتخب مكانه، ويتركه لمن يستطيع إدارة الدولة، فلما سُئل عمن يقترحه بديلا لإدارتها قال بأمانة يُشكر عليها: «بصراحة مش عارف يا باشا»، وثالث قال بحسم وحزم: «لابد أن نرفض هذا الدستور»! فلما سُئل عن السبب قال: «لأن الفقهاء الدستوريين يقولون ذلك فى «التليفجن» «وحينما استدرك عليه المراسل سائلاً عن المواد التى يعترض عليها تحديدًا، خفتت حماسته وبهت حسمه وردَّ فى حيرة: «ما احبش أتكلم فى حاجة ماليش دخل فيها»!! تلك الإجابات التى لم تختلف كثيرًا عن إجابات بعض المثقفين والقيادات الحزبية ممن شهدوا تلك الـمظاهرات.
بغض النظر عن كل ذلك، وغيره يظل السؤال المهم مطروحًا دون أن يجد إجابة محددة..السؤال الذى كنت قد سألته لبعض أصدقائنا ممن دعوا للنزول إلى تلك الجمعة التى كان من أهم أهدافها المعلنة، ومن أبرز شعارات، وهتافات مسيراتها إسقاط الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، وتشكيل جمعية جديدة. سؤال للأسف لم أجد الآن إجابة شافية عليه. ماذا بعد أن تسقط التأسيسية؟ فلنفترض أن التأسيسية الحالية قد أُسقطت، أو أصدرت المحكمة الإدارية حُكمها المنتظر فى أى لحظة بحلها، ذلك الحكم الذى ربما يكون قد صدر بالفعل لحظة كتابة هذه السطور. وماذا بعد؟ ما هى الآلية المقترحة لتكوين تأسيسية جديدة؟ هل سيقبلون مثلا بجمعية ينتخبها الشعب انتخابًا مباشرًا، كما تم فى تونس؟ وماذا هم فاعلون إذا جاء الانتخاب بجمعية تشبه فى نسبها الجمعية الحالية؟ وهو بالمناسبة أمر غير مستبعد. هل لو جاءت التأسيسية بالانتخاب، وفاز الإسلاميون بأغلبيتها مرة أخرى، فسنشهد دعوات أخرى لمليونيات من نوعية «مصر مش وسية» أو «مصر مش مزرعة» وسائر مكونات المجتمع الزراعى الحبيب، أم أنهم سيقبلون اختيار الشعب هذه المرة؟وإن قبلوا هم بالتشكيل الجديد للجمعية المعينة فما الذى يضمن ألا يخرج آخرون يرفضونها؟ أم أن أصدقاءنا الداعين لإسقاط التأسيسية الحالية سيقترحون جمعية بالتعيين المباشر؟ حينئذ سيُسألون: من الذى سيختار ويعين أعضاءها، وهل أسلوب التعيين هو الأسلوب المدنى المخالف لأسلوب «العزبة» التى خرجوا يرفضونها؟!.
المُفترض، والمُتوقع إذا تم حل التأسيسية الحالية، وجاءت الجديدة بالتعيين أن من سيعينها هو رئيس الجمهورية، فهل سيقبلون بتأسيسية عينها رئيس لا يقبلون منه شيئًا تقريبًا؟ وهل يتوقعون أن تختلف الأوزان النوعية فى التأسيسية الجديدة التى سيعينها الرئيس الإسلامى، أم أن غضبهم واحتجاجهم سوف يستمر من أجل تشكيل يرضيهم ويريح أيديولوجياتهم؟ عندئذٍ ما الذى سيمنع الإسلاميين أن يخرجوا هم أيضا بمليونيات «قندهارية» جديدة، تدعو لإسقاط التأسيسية الوليدة المشكَّلة نخبويًا، بعيدًا عن شعب يفترض أن تمثله وأن يشارك فى اختيارها؟ وما المعيار المحكم الذى سيرضى الناس جميعا؟ وهل يتصور بهذه الطريقة أن تنتهى تلك الحلقات المفرغة يوما ما؟
عن نفسى، وبهذا المنطق لا أعتقد أن نخرج من ذلك التيه بأى مسار من المسارات السابقة، وذلك ببساطة لأننا نرفض أن نسلك الطريق الطبيعى، والمنطقى، ونُصر أن نعتمد دائما المنطق الشمشونى فى الخلاف. منطق «علىّ وعلى أعدائى». ما أتصوره أن الطريق الطبيعى، والمنطقى، هو النظر فى المسودة الحالية - التى يفترض أنها قابلة للتعديل - ثم مناقشتها مجتمعيًا، وهو ما أراه واجب المرحلة التى نحن فيها الآن، ومن ثَم ينتج عن هذه المناقشة المجتمعية الموضوعية مقترحات وبدائل وأخذ ورد، حتى يخرج دستور مصر فى شكله النهائى، ثم يتم تقييمه فإما أن يُقبل، أو يتم رفضه بعد ذلك بالآليات المشروعة. أما الإصرار على أسلوب الألعاب الإلكترونية التى يلجأ فيها اللاعب إلى إعادة التشغيل كلما ضايقه مسار اللعب، فهذا لن يؤدى إلا إلى مزيد من الدوائر الاستقطابية المفرغة، ومزيد من الإهدار لوقت الوطن والمواطن. وحينئذ ستبقى مصر «مش عارفة» إجابة السؤال التقليدى، ثم ماذا بعد؟.