تتميز بلادنا بكم لا بأس به من المهن الفلكلورية التى ربما لا تجد لها نظيرا فى بلاد أخرى.
عندنا مثلا تجد «المخلصاتى»، ذلك الرجل دائم الانتظار فى المصالح الحكومية الذى ما إن يرى المواطن صاحب الحاجة حتى يتلقفه ويجول به فى دهاليز المصلحة ليقضى له حاجته ثم يحصل على ما فيه النصيب، كذلك تجد فى بلادنا فقط المسحراتى، ذلك الرجل الذى يجوب الطرقات فى ليالى رمضان الجميلة قارعا دفه الصغير رافعا عقيرته بعبارته التقليدية: «اصحى يا نايم وحد الدايم». ذلك النداء المألوف الذى غالبا ما نسمعه مبكرًا فى وقت يندر فيه النائمون، وحتى من قرر النوم فإنه بلا شك فى زمن الهواتف الذكية أو غير الذكية سيبحث لنفسه عن وسيلة إيقاظ أكثر فاعلية من طرقات المسحراتى، لكن رغم يقين صاحبنا بعدم جدوى ما يفعل فإنه يتعامل معه على أنه مهمة مقدسة يواظب عليها فى إصرار يشبه إلى حد كبير إصرار صاحبنا الآخر الذى عنونت المقال بمهنته أو مهمته «المبرراتى»!!
وصديقنا المبرراتى موجود دائما فى كل جماعة وداخل كل حزب أو تيار، هو شخص ما إن يصبح على انتقاد وُجه إلى حزبه، أو جماعته، أو يمسى على سقطة صدرت عنها، أو عن أحد قياداتها، أو أتباعها، حتى يقدح فورا زناد فكره، ويعتصر ذهنه ليخرج المبررات المنطقية واللامنطقية التى تبرر لهذا الفعل أو لتلك السقطة ثم لا يلبث أن ينبرى مسرعا ليدافع عن متبوعه أو زميله أو تياره فى استماتة عجيبة.
شخص صار التبرير سبيله، ومنهجه، والمعاذير طريقه، ومذهبه، فاستحق عن جدارة لقب «المبرراتى»، وكثيرًا ما يتحول صاحبنا إلى مهنة أخرى، تعتبر فى تقديرى التطور الطبيعى للمهنة الأولى، إنه يتحول دون أن يشعر إلى «مطبلاتى» مهمته المقدسة أن ينزه متبوعيه عن كل نقص، أو عيب، ويجعل لهم كل منقبة وفضل، وكأنهم عن كل عيب منزهون، ومن كل نقص مبرؤون، بل كأنهم فى نظره أنبياء معصومون!
أحيانا تكون المبررات مقنعة بل كثيرا ما تدخل فى حيز الأعذار التى أمرنا ديننا الحنيف أن نبذل الجهد فى التماسها لإخواننا، لكن ما يدعو إلى الضيق أن أخانا «المبرراتى» لا يعدل فى ذلك، ولا يبذل وسعه فى التماس الأعذار إلا لمتبوعيه، بل المدهش فى الأمر أنه غالبا ما يغير مهنته فورًا حينما يتعلق الأمر بمنافس، أو خصم، فيتحول مباشرة إلى «متربصاتى»!! ينتظر الشاردة والواردة تصدر من خصمه ليملأ الدنيا بنقده اللاذع له رافضا كل تبرير أو عذر من مبرراتية الخصم.
والحقيقة التى ينبغى أن تترسخ فى أذهان الجميع أنه ليس لكل شىء تبريرٌ، ومن ظن ذلك فإنه سيقع لا محالة فى فخ التكلف، ويكون مثله كمثل الذين تخلفوا يوم تبوك وجاءوا إلى النبى بأعذار واهية لم تنجهم من ذلك اللقب الذى لقبهم به رب العالمين، وأراه الاصطلاح الشرعى المعبر عن حال المبررين لقب «المعذِّرين» فى قوله تعالى «وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ» أولئك الذين امتلأت سورة التوبة بذكر حججهم المتكلفة ووعيد الله لهم، لم ينج من كل ذلك إلا الثلاثة الذين لم يبرروا، ولم يسوقوا المعاذير الواهية رغم أنهم فى بداية الأمر كادوا يستدرجون إليها ويصدقونها لولا أن تداركوا الأمر، وفهموا أنه لا يشترط أن يكون لكل شىء مبرر، أو عذر، وأن الأخطاء لا تبرر، فقط يعترف بها، ويُعتذر عنها ففعلوا، لقد اعترفوا بالخطأ ولم يبرروا فكان صدقهم واعترافهم سببًا فى توبة الله عليهم.
لذلك فأنا أُوجه كلماتى إلى صديقى «المبرراتى» داخل كل جماعة، وحزب، وتيار، أقول له: ثقتك فى متبوعك، وحبك له، وتوقيرك إياه لا يعنى أبدا أن كل ما يفعله مُبرر، وأن واجبك المقدس أن تبحث له عن تلك المبررات. من حقك أن تلتمس العذر، كما ورد عن النبى، لكن أحيانا يكون العذر أنه فقط... بشر. وأن البشر يخطئون، ويزلون، ويتأولون، بل ويعصون، وتلك- يا عزيزى- أمور لا تستوجب تبريرًا، إنما هى ببساطة أمور تستوجب توبة واعتذارًا، أرجو أن يعى كلماتى هذه كل «مطبلاتى» و«متربصاتى» و.. «مبرراتى».