من حسن الطالع أن تقوم بزيارة إلى الجزائر، لتكتشف عن قرب الجريمة الكبرى التى ارتكبها فى حق الشعبين المصرى والجزائرى نظام مبارك وأعوانه من الإعلاميين الأوباش أيام المباراة المشئومة!
هناك فى الجزائر، التى عدت منها الاثنين الفائت، تلمس بوضوح حفاوة أهل البلد بنا نحن المصريين.. لا يقتصر الأمر على المثقفين والكتاب الجزائريين وهم كثر، بل كل من تعاملت معهم من أهل البلد.. الباعة وسائقو سيارات الأجرة وجرسونات المقاهى والمطاعم.. الكل يضع مصر وشعبها فى ركن كريم من قلبه.
لا أخفى عليك القول إننى ترددت قليلاً فى قبول الدعوة الكريمة من قبل الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافى، التابعة لوزارة الثقافة الجزائرية، لإجراء حوار مفتوح مع رواد المعرض الدولى للكتاب بالعاصمة الجزائرية فى دورته رقم 17.
سبب التردد أمران.. الأول هو ما ترسخ فى وعينا من أن القتل والذبح والتفجيرات مسألة عادية فى الجزائر بسبب (العشرية السوداء)، كما يطلقون عليها أهل الجزائر، والتى امتدت بين عامى 1992و 2002، إثر صراع سياسى حاد وعنيف راح ضحيته أكثر من مائة ألف جزائرى، كما تقول معظم المصادر.
أما الأمر الثانى فتمثل فيما تركته مباراة كرة القدم إياها من رواسب ومرارات لكلا الشعبين أشعل نيرانها نظام مبارك وزبانيته من أصحاب المصالح المشبوهة.. لم يطل ترددى أكثر من ثوان معدودات، إذ غلبتنى غريزتى الصحفية وقررت الذهاب لأرى هذا البلد، الذى قرأت الكثير عن كفاحه وبطولاته ضد الاحتلال الفرنسى، كما اطلعت على بعض كتابات ونصوص مبدعيه المتفردين أمثال الطاهر وطار/ واسينى الأعرج/ مالك بن نبى وغيرهم.. كما أننى حظيت طوال إقامتى فى دبى بصداقة رائعة مع الكاتب الجزائرى النبيل محمد حسين طلبى.. (أفتح هذا القوس لأذكرك كذلك بالفيلم البديع جميلة بوحريد للفنانة المتميزة ماجدة ويوسف شاهين).
أول ما يلفت انتباهك فى الجزائر (35 مليون نسمة، والعاصمة 5 ملايين فقط)، هو هذا الكرنفال المدهش من الطبيعة الخضراء والسموات الصافية والبحر الأزرق الرائق.. حسب علمى ما من أحد حظى بنعمة زيارة الجزائر إلا ووقع فى هواها من أول شجرة!
فى هذه الرحلة، التى دامت خمسة أيام بدا لى واضحًا أن عشق الجزائريين للقراءة وشغفهم بالمعرفة ثابت وعميق، فزوار معرض الكتاب هم الأكثر عددًا فى العالم بعد معرضى فرانكفورت والقاهرة، حسب الإحصائيات الرسمية، وقد لاحظت أن كل زائر للمعرض يخرج وفى يده كتاب واحد على الأقل إلا فيما ندر! كما أسعدنى الإقبال الكبير على حضور الندوات الفكرية والأمسيات الشعرية واللقاءات المفتوحة مع مبدعين جزائريين وعرب. (على سبيل المثال ندوات الروائى المصرى عز الدين شكرى فشير، الشاعر العراقى سعدى يوسف، الشاعرة الكويتية سعدية مفرح، الناقدة القطرية الدكتور هدى النعيمى، فلور مونتانارو منسقة جائزة البوكر العربية وكاتب هذه السطور وغيرهم كثير من مبدعى الجزائر).
تلوح اهتماماتهم بالمعرفة أيضاً فى الحضور الكثيف للجرائد والمجلات عند الباعة.. صحيح أن معظم هذه المطبوعات فرنسية اللغة، إلا أنها تعبر عن سوق رائج للقراءة والاطلاع.
من أجمل المتع فى المدن العتيقة هو ممارسة التجوال فى أحيائها العتيدة وحواريها القديمة، وهو ما قمت به بصحبة الشاب الجزائرى النشيط محمد لرجان، حيث مررنا بساحة الشهداء فى العاصمة، وتأملنا الجامع الكبير وجامع كتشاو، وزرنا حى اليهود وساحة عبد القادر الجزائرى، والتقطنا الصور عند المبنى العريق للبريد المركزى، لا ريب فى أن الطابع المعمارى الفرنسى هو الغالب فى وسط العاصمة، فالاحتلال ظل جاثماً على أنفاس الناس نحو 130 عاماً كاملة، وقد نجح الفرنسيون فى فرض لغتهم والكثير من عاداتهم على الشعب الجزائرى، لكن واضح الآن بقوة ومنذ الاستقلال فى عام 1962 تلك الرغبة الجارفة فى استعادة الروح العربية.
أرجو ألا تظن أننى أتحدث عن مدينة ملائكية، فما من مدينة عربية إلا وتكابد مشكلات لا حصر لها.. ومن المؤكد أن الجزائر تزدحم بمصاعب متنوعة، لكن ما بدا لى من هذه المصاعب تمثل فى تراجع فضيلة العدل الاجتماعى إلى حد ما، وازدياد الظلم على أهل الأمازيغ (عددهم نحو 7 ملايين)، حيث حُرموا من مزايا كثيرة أولها الاعتراف الرسمى بلغتهم الخاصة!
على أية حال.. كانت رحلتى الأولى للجزائر شائقة وممتعة، فالشكر كل الشكر للوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافى وموظفيها المتحمسين (يوسف بن مهيدى/ مريم/ فيصل بو إصبع) الذين زادونا من الشعر بيتاً ونظموا لنا رحلة إلى مدينة ساحرة تبعد عن الجزائر العاصمة بنحو 80 كيلو مترًا اسمها (تيبازة)، وتلك قصة أخرى! ولا سامح الله مبارك وأتباعه من الأفاقين والمنافقين الذين حاولوا إفساد العلاقة المتينة بيننا وبين الجزائر!
حين سألتنى مذيعة التليفزيون الجزائرية، نسيمة غولى، عن انطباعى عن البلد قلت لها: الجزائريون شعب جميل ومهذب ومثقف ونظيف.. وهذا يكفى.