د. بليغ حمدى

أَهْلُ الحُبِّ أحْيَاءُ

الجمعة، 05 أكتوبر 2012 08:04 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هَلْ مِن أَجْلِ هذَا القَبْرِ نَامَتْ مِصْرُ فِى الوَادِى
كَأنَّ القَبْرَ سَيِّدُهَا؟
بِلادٌ كَلَّمَا عَانَقْتُهَا فَرَّتْ مِن الأضْلاعِ
لَكِنْ كُلَّمَا حَاوَلْتُ أنْ أنْجُو من النِّسْيَانِ فيهَا
طارَدَتْ روحِى..

الأبيات السابقة من قصيدة الشاعر المنتمى لقضية بلاده محمود درويش بعنوان: رحلة المتنبى إلى مصر، طارت أبياتها من ديوانه لتستقر برأسى وأنا أقلب مشهدين من مشاهد المحروسة بعينى، المشهد الأول حينما رأيت مبدعى مصر وفنانيها الحقيقيين وهم يعيدون رسم ما سطروه وخطوه من فن الجرافيتى على جدران القاهرة، تحديداً بميدان التحرير وشارع محمد محمود. وكأن النظام السياسى يأبى أن يكون لمصر تاريخ استثنائى غير الموجود بكتب المناهج الدراسية الوزارية أو الكتب المشوهة التى تقدم بالمدارس الربحية وكلتاهما يعصفان بمستقبل الأمة وينسف ماضيها نسفاً.

وربما تلك الرسومات هى التى أكدت بالفعل فشل وتدنى وتدهور مستوى كليات الفنون الجميلة والتربية الفنية بمصر، ففى الوقت الذى اتجهت فيه هذه الكليات إلى التنظير والتقعير والنفسنة وممارسة مركبات النقص على المجتمع الجاهل بالضرورة من وجهة نظرهم، لأنه لا يفهم أعمالهم الخالدة الفريدة.. اتجهت أيادى الفنانين المصريين الأصليين إلى تخليد يومياتهم الحاسمة والمحمومة عن طريق الرسم الجدارى.

وهذا لا يعد جديداً، فالفراعنة ومن تبعهم قاموا بتجسيد مظاهر حياتهم واحتفالاتهم على جدران الشوارع والمعابد، لكن أن يأتى النظام السياسى الحالى متمثلاً فى حكومته التى تبدو كل يوم وليلة عاجزة عن تحقيق مطالب شعبها، وتقرر تجميل وتنظيف الميادين وعلى رأسها الميدان التاريخى "التحرير"، وتقوم مشكورة بإزالة تلك الرسومات فهى بحق تسعى لتدمير ذاكرة هذه الأمة، وكأنها تتحالف مع نظام مبارك الذى استهدف تشويه ماضى الوطن وحاضره ولكن هيهات أتت الرياح بما لم تشتهيه سفنه المتكسرة.

واليوم ونحن نطالع حالات الكر والفر بين الفن وبيروقراطية الحكومة، أى بين إعادة الرسومات الاختزالية لحراك مصر السياسى الذى قرره سباب هذا الوطن وبين قرارات إدارية غير مدروسة وغير مخططة ولا أفطن مفادها اللهم سوى تصريحات المسئولين عن التجميل والتشجير والنظافة. ولو تعامل المسئولون بهذه العقلية التدميرية مع الفن الراقى الذى لا يدعو للعهر وإثارة الغرائز فإنه يسعى بجدية لتقويض وطن جميل كمصر.

وإذا كانت الحكومة النشيطة الغائبة عن المشهد السياسى والاجتماعى وإضرابات العمال بطول وعرض مصر قد قررت أن تجمل وتزين وتعيد الحياة بميادين مصر، فإن مصر نفسها أرادت أن تبعث للحكومة رسائل قصيرة جداً لاختراعات وابتكارات الحكومة الجليلة أبرزها أن الثورة التى أتت بحكومة وقيادة ومؤسسات إخوانية هى وحدها القادرة على تشكيل وجدان مصر وهويتها، وأن الثورة التى لا تزال مستمرة هى أكبر دليل على أن الأنظمة السياسية تشيخ، ولو كانت فى المهد صبية، لكن الثورة نفسها لا تهرم ولا تشيخ لأنها قامت على الحب، وليت القائمين على إدارة هذا الوطن يفطنون إلى حقيقة أن أهل الحب أحياء.

المشهد الثانى الذى استرعى انتباهى هو ما تفعله وزارة الأوقاف متمثلة فى وزيرها الدكتور طلعت عفيفى مع الطرق الصوفية ومريديها وأنصارها ومحبيها. فلربما لم يدرك الوزير أنه فتح النار على نفسه وعلى وزارته بل وعلى جماعته التى صعدته لسدة الوزارة بسبب تصريحاته الاستفزازية والمضطربة بعض الشىء ضد الصوفيين وهم الفئة التى لم تزأر بعد لأن زئيرها جلل.

فالوزير أعلن باختصار منع إقامة أية "حضرات للذكر" داخل المساجد التى هى فى الأصل بيوت الرحمن وليست ملكاً للوزارة إلا بورقة تستطيع قوى الثورة أن تمزقها مائة قطعة صغيرة، ولم يكتف الوزير بذلك، بل وصل الأمر به إلى تحريم الصلاة فى المساجد التى بها قبول أولياء الله الصالحين أو ما اتفق على تسميتهم بأهل الحب وهو حب الله تعالى، وكأنه بذلك يحاول استرضاء التيارات الدينية المتشددة التى حرمت من قبل الصلاة أو حتى مجرد الجلوس فى تلك المساجد التى هى فى الأصل بيوت للعبادة.

وربما أن الوزير لم يدرك حتى كتابة هذه السطور أنه بفعلته تلك يحدث فتنة كبيرة داخل أنساق المجتمع الذى هو فى أمس الحاجة إلى التكاتف والتعاطف بين أهله وجماعاته، بجانب أن فكرة توحيد الصف باتت من أجل الرؤى المطروحة لإعمار مصر لا لتخريبها أو تشجيع المخربين على هذا، وربما أن امتناع وزير الأوقاف عن حضور المناسبات الدينية التى تقيمها الطرق الصوفية فى مصر لهو مدعاة لمزيد من "الامتقاع" والغضب من جانب أقطاب ومريدى هذه الطرق والوزارة بأسرها وليس الوزير فحسب.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة