فى عام 1992 كان المرحوم ثروت أباظة وكيلا لمجلس الشورى، وكان فى نفس الوقت رئيسا لاتحاد كتاب مصر. كان الكتاب منقسمين حول الاتحاد من بدايته فى السبعينيات.. قسم كبير منهم يراه اتحادا يمثل النظام الحاكم لا الكتاب، والقسم الآخر من الكتاب يتعايش مع رئيسه يوسف السباعى أو ثروت أباظة فيما بعد ولا تحدث مشكلة ما، ابتعد الكثيرون عن الاتحاد ودخله الكثيرون لا أعرف كيف، لكن ليس هذا هو الموضوع، كنت أنا من غير المتعاونين مع مجالس إدارة الاتحاد منذ إنشائه، وفى يوم ما شننت هجوما كبيرا على المرحوم ثروت أباظة فى حوار معى فى جريدة الجمهورية، كان الوقت متزامنا مع انتخابات جديدة لمجلس الإدارة ولم أكن مترشحا، كنت مثل غيرى من الكتاب اليساريين، كما كان يقال عنا وقتها، لا نحب ما يحدث فى الاتحاد رغم أنه لم يكن هناك شىء يحدث ولا حتى ندوات، أى لم نكن نحب هذا العدم للاتحاد فى وقت تتفجر فيه القضايا فى مصر، فى اجتماع الجمعية العمومية دخلت متأخرا دقائق وكان المرحوم ثروت أباظة على المنصة، رآنى فقطع حديثه وقال مهددا أنه لن يتخلى عن رفع قضية على من تجرأ عليه بهجوم غير مبرر، كان الكلام لى، فلم أهتم لسبب بسيط، أننى لم أتوجه إليه شخصيا بأى لفظ ناب أو خارج، كان هجومى على تقصير الاتحاد فى العمل العام، وعلى غياب دوره التنويرى فى مواجهة النظام المظلم، انتهت الجمعية العمومية وعدت إلى منزلى، ولم يحدث بيننا أى نقاش. فى المساء وجدت أحد مساعديه رحمه الله رحمة واسعة يتصل بى ويقول لى إن ثروت بيه يريد مقابلتك، قلت له لا مانع طبعا، فليس بينى وبينه عداء شخصى، والحقيقة أن ثروت أباظة كاتب لم أكن أحب مقالاته السياسية التى كانت كلها ضد اليسار، بينما لم أكره أبدا قصصه ولا رواياته، بل كان موقفه السياسى هذا سبب الجناية النقدية على أعماله الأدبية التى تجاهلها الكثير من نقاد اليسار، وربما كان هذا التجاهل أيضا سبب حنقه على اليسار.
حددنا موعدا فى مجلس الشورى وذهبت إليه فى الموعد، كانت هذه أول مرة أدخل مجلس الشورى، وما إن صافحت المرحوم ثروت أباظة وجلست حتى وجدت نفسى دون إرادة أنظر حولى وفوقى إلى البناء الرائع للمجلس لدقائق حتى بادرنى بسؤال: لماذا تهاجمنى كل هذا الهجوم؟ وألحق السؤال قائلا: أنا لا يهاجمنى فى مصر إلا الشيوعيون والناصريون لأسباب سياسية، ابتسمت وقلت له بالضبط يا ثروت بيه نحن نجلس الآن فى مجلس الشورى، هذا البناء العظيم التحفة المعمارية شهد قبل ثورة يوليو عظماء من مصر، وكان رئيسه يوما ما قطاوى باشا اليهودى، ولم يكن فى مصر تمييز على أساس الفكر أو اللون أو الدين، بل كانت مصر ملاذا لكل المضطهدين فى الدنيا، ومن هؤلاء الناس الذين شهدهم المجلس، ربما كان والد حضرتك الباشا وعدد كبير من العائلة الأباظية، وليس من المعقول تحت هذا البناء أن نتحدث عن أصحاب الاتجاهات الأخرى أى حديث شائن، وضحكت وقلت وياريت نحترم باشوات زمان، صمت الرجل لحظة وتراجع إلى ظهر المقعد، وقال لى غلبتنى يا أستاذ إبراهيم، بعد ذلك مشى الحديث جميلا، وأقر الرجل ببعض انتقاداتى واقتنعت أنا ببعض تبريراته وإن لم يثن ذلك عن التحالف مع المرحوم سعد الدين وهبة بعد ذلك بسنوات لنسقط الأستاذ ثروت وكثيرين من جماعته فى انتخابات الاتحاد عام 1998 فيما أذكر، لأنى بعدها لم أرشح نفسى لمجلس الإدارة بل ولم حتى أكمل مدتى ذلك الوقت. استقلت، وليس هذا موضوعنا، موضوعنا هو هذا المجلس الذى شهد على مصر الليبرالية التى لم تكن فيها تفرقة بين الأديان ولا الأجناس ولا الرجل والمرأة قبل ثورة يوليو 1952 رغم وجود الاحتلال، هذا البناء يجتمع تحته الآن أعضاء اللجنة التاسيسية للدستور متجاهلين هذا التاريخ ويناقشون قضايا حسمت فى مصر من زمان وحسمت فى العالم مثل وضع المرأة الذى يريدون العودة به إلى العصور الوسطى، عصر الحريم، ومثل سن الزواج الذى لا يريدون تحديدها ليطلقوا العنان للزواج من القاصرات التى ستتم معاشرتهن بالمفاخذة، كما يقول بعضهم فى التليفزيون، ومثل حرية التعبير التى يريدون لها شروطا باسم الدين تارة وباسم الحفاظ على هوية مصر تارة، بينما هوية مصر تم تدميرها لصالح الأفكار الوهابية والزى الوهابى الصحراوى، وكذلك وضع قيود بحجة الدفاع عن الله والأنبياء والصحابة، وقيود ستكون على النشر وعلى الفن وعودة للرقابة بقوانين يكفلها الدستور بهذه المبادئ الغريبة التى يسربونها إلينا، وسيفعلون ذلك حماية للحاكم والنظام السياسى وليس الله ولا الأنبياء ولا الصحابة، هؤلاء سكة بس لتمرير مبادئ تترتب عليها قوانين قمعية، كذلك هناك إصرار على عدم النص على منع الرق ومنع الإتجار بالبشر باعتبار أن ذلك لا يحدث فى مصر دون أن يسألوا أنفسهم مادام هذا لا يحدث فلماذا لا تضعون النص وقاية من حدوثه؟ والحقيقة التى يتجاهلونها أنه يحدث، ومن زمان، منذ أربعين سنة، وتناولته السينما وتناولته الكتابات، وهكذا أرى أن تحت هذا البناء العالمى الذى تمتزج فيه الروح الإسلامية فى العمارة بالروح الأوروبية، خيمة لم يعرف أغلبية من تحتها من قبل معنى المدنية، والذين يعرفونها يبحثون عن توافق معهم، هل هى مشكلة شخصية مثلا تحل بالتوافق؟.. الدستور مبادئ عامة المراد بها أن تتحرر مصر من كل قيد لتنطلق كما كانت قبل ثورة يوليو إلى سماء الإنسانية، يا سادة يا كرام ارفعوا عيونكم إلى سقف مجلس الشورى، ودوروا على جدرانه حولكم وتذكروا أنه شهد المئات من بناة النهضة المصرية التى تريدون حفر قبرها لتكون مصر ولاية لا قيمة لها تحكمها أفكار الصحراء الوهابية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة