لا أعتقد أن حياتنا ستتغير، أو أننا سنصحو يوماً ونجد أنفسنا متقدمين متحضرين مؤثرين إلا بإصلاح ثقافى حقيقى، ولا أقصد بالإصلاح الثقافى هنا مجرد تنمية الإبداع، أو نشر الكتب، أو عمل المهرجانات والاحتفاليات والأمسيات، فما تفعله هذه الممارسات هو مجرد تنمية للثقافة، أما الإصلاح الثقافى فهو ذلك العمل الذى يراد به الإصلاح «بالثقافة»، أى اكتشاف مواطن الداء فى ثقافات المجتمع، والعمل من أجل علاجها أو استبدالها، وآمل أن تهدأ الأوضاع قليلا ليتمكن الباحثون من دراسة مجتمعنا بأساليب علمية حديثة، واكتشاف معوقات التحضر فى بنية ثقافة المجتمع، ووضع خطة طموحة لإصلاحها، لأن هذا الأمر من وجهة نظرى أجدى وأنفع من ألف مشروع نهضة مزعوم، ولا أبالغ إذا قلت لا سبيل للنهضة الحقيقية إلى من خلاله.
خذ عندك مثلا حال مدارسنا، وما تشهده هذه الأيام من انتهاكات لحقوق الطفل، ستؤدى حتماً إلى خلق جيل مشوه، لا يعرف إلا الاستبداد، أمامنا مدرسة فى أسوان قصت شعر طفلة، لأنها لا ترتدى الحجاب، مبررة ذلك بأنها كانت تريد أن تحافظ على «هيبتها»، وأخرى فى الإسكندرية قصت شعر طفل لأنه كان طويلاً، وثالثة فى ذات المحافظة جعلت أحد تلامذتها يمسح نعليها، وبرغم تطرف هذه الأفعال وقبحها، خاصة تلك التى اتخذت من الدين ستاراً، لكننى أرى اختصار المشكلة فى أمر عدة مدرسات تبسيطا «مجرماً» فى حق الظاهرة، وذلك لأن هذه الظاهرة عميقة فى بنية المجتمع المصرى، وأساسها سيادة ثقافة «الأبوية» أو «البطريركية» فى مجتمعنا، ومعناها أن المجتمع يضفى صفة الأبوة على من هم ليسوا فى مكان الأب أو مكانته، ولنتذكر على سبيل المثال ما كان يقال لشباب التحرير لتبشيع ثورتهم على مبارك، حينما كان المعارضون يضغطون على المجتمع بالقول «اعتبروه زى أبوكو»، أو «ترضوا حد يشتم أبوكو كده»، وهو الأمر الذى تمت ترجمته فيما بعد بشكل أوضح، عندما شكل بعض مؤيدى مبارك جبهة أسموها «أبناء مبارك»، وهو ما يدل على أن لدينا فهما خاطئا للسياسة وفهما خاطئا للأبوة أيضاً.
من هذا المنطلق تصرفت المدرسات «المجرمات»، فكل واحدة منهن تخيلت نفسها فى مكان الأب أو الأم، وأعطت لنفسها حقا ليس حقها، ولم يضعن فى حسابهن أنهن «موظفات»، عليهم أن يؤدين ما عليهن من واجبات، دون تقمص لأدوار أخرى، وحينما تسود هذه الثقافة الأبوية، متخذة ستاراً دينياً أو أخلاقياً فى مجتمع يفهم الأبوة أيضاً بشكل خاطئ، فأقل نتائج ذلك هو تلك الجرائم التى رأيانها وتأذينا منها، وبالمناسبة لم نكن لنتأذى من تلك الممارسات إلا حديثاً، حينما مسنا بعض من ثقافة احترام الحرية والخصوصية، والدليل على ذلك أننا نجد بعض دعاة الرجعية يبررون هذه الأفعال الإجرامية لمرتكبيها.
لا تقتصر «الثقافة البطريركية» هذه على المدرسين والمدرسات، وإنما تجدها فى العديد من مناحى الحياة، يمارسها الإمام فى المسجد، والقس فى الكنيسة، والضابط فى القسم، والرئيس فى العمل، والوزير فى الوزارة، والرئيس فى ديوان الحكم، فكلمة «أنتم زى أولادى» كلمة جميلة، لكن البعض يقولها فتشعر أن ظاهرها الرحمة وباطنها الجحيم، وأعتقد أن تفشى هذه الظاهرة دليل على الرجعية والتخلف، وإننا لن نتقدم إلا بتقويمها وتطويرها، ولا يعنى هذا أننى أدعو إلى عدم احترام الكبير أو توقيره، على العكس تماماً، لكننى أدعو إلى أهمية أن نفرق بين الأبوة المختارة والأبوة الجبرية، وأن نرسخ قواعد الحرية الفردية لنجعل منها حصناً منيعاً يقف ضد كل من يسيئون استخدام حق الأبوة فى التقويم والتعليم والتربية، فتصبح النتيجة استبدادا مقنّعا قميئا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرية جدا
آباء جاهلون
عدد الردود 0
بواسطة:
ســعيد متولـى
أبونا وائل الســمرى
عدد الردود 0
بواسطة:
مؤمنة أحمد
إلى صاحب التعليق رقم 2
عدد الردود 0
بواسطة:
جمال عبد الناصر
إلي من تتحدث
مصر تغرق ياصديقي...
إلي من تتحدث عن الثقافه ؟
عدد الردود 0
بواسطة:
رمضان
قبل الثقافه ’’ الأخلاق ’’