قضيت أسبوعا فى فيينا، فى لقاء حول ثقافة البحر المتوسط، وبصفة خاصة آداب البحر المتوسط، رواية وشعرًا وقصة. كان معى فيه الكاتب الروائى الكبير إبراهيم الكونى، والشاعر والروائى اللبنانى عباس بيضون وآخرون من الكتاب الأجانب. لن أتحدث كثيرا عن اللقاء لكنى سأشير إلى شىء لطيف فى البداية، وهو أن الجهة الداعية تسمى بالألمانية Alte Schmied ومعناها بالعربية ورشة الحدادة أو أشغال الحديد.
ورغم أن اللقاءات كانت بمسرح الأوديون الكبير حيث المكان متسع للجمهور فإن أحد اللقاءات كان فى مقر الجهة الداعية. وجدنا حولنا آثار المكان قديما، حيث كان بالفعل فى بدايات القرن العشرين ورشة حدادة، وحولنا على الجدران كل أدوات الحدادة من المنشار حتى المنجلة والسقف لا يزال أسود، كما هو، والجدران على حالتها من الداخل. وهكذا تجد نفسك تفكر فى ناس تحافظ على التراث حتى لو كان ورشة حدادة وناس تريد تحطيم الأهرامات!
رافقنى فى الأيام التى حضرتها الفنان التشكيلى والنحات المصرى الجميل حازم المستكاوى الذى حين علم بقدومى لم يتركنى ومعه زوجته وكذلك الشاعر والروائى الرائع طارق الطيب وزوجته وبالطبع قضينا وقتا ممتعا سواء فى جلساتنا أو فى زيارتنا لمتحف تاريخ الفن الذى تركت نفسى فيه أنا وعباس بيضون، لطارق الطيب يشرح لنا كل شىء حيث كل شىء حولنا بالألمانية.
لقد حضر سفير مصر السيد خالد شمعة الافتتاح، وحضر لقائى ولقاء الكونى وعباس وبقية الليلة وكان حضوره طيبا لاهتمامه ولحضوره بالملابس غير الرسمية -كاجوال- وجلوسه بين الجمهور وليس فى الصف الأول.
وبالطبع لن أحدثك عن جمال فيينا لأن الحديث عن أوروبا كلها لابد ينتهى بالبكاء على مصر التى كانت يوما ما جزءا من البحر المتوسط وقطعة من أوروبا، فصارت منذ عصر السادات جزءا من ثقافة الجزيرة العربية ولم تعد حتى عروبتها هدفا، لكن صار الهدف أن تكون وهابية رغم أن سواحلها على المتوسط أكثر من ألف كيلو متر. ورغم أن أعظم عصورها بعد الفراعنة كان العصر السكندرى أو الهيلينى حين امتزجت الحضارة الشرقية باليونانية والرومانية وصارت الإسكندرية عاصمة الدنيا وحاضرتها وتكرر ذلك مرة أخرى مع النهضة فى عصر محمد على وبلغ غايته بعد ثورة 1919 مرورا بعصر إسماعيل، حتى جمال عبدالناصر وسياسته التى جعلت من القومية العربية هدفها لم تتخلّ عن البحر المتوسط وثقافته حتى جاء السادات وغير كل شىء، كما قلت ومشى خلفه سلفه مبارك فى صمت وعزم قاتل، ثم نرى الآن من يضعون دستورا يسعون إلى إقامة محاكم تفتيش عقائدية باسم الدين، ولم نكن أبدا كفارا فى يوم من الأيام، فالأديان عرفت طريقها للبشر من مصر ومن بلاد الرافدين.
لا تستطيع فى هذه الأيام السوداء فى مصر أن تكون هناك، فكل الأحاديث مع المصريين أو العرب دائما عن هنا والآن، وكل الأحاديث مع الأجانب فى المقاهى وغيرها عن هنا والآن. لقد انتشرت فى الصحف ونحن هناك مقولة السلفى الذى دعا إلى هدم الأهرامات، وتعليقى البسيط عليها لن يكون كلامى ولا كلام الآخرين، لكن عودتى على طائرة بوينج ليس فوقها غير سبعين شخصا أكثرهم مصريون من العاملين هناك. أقول لك طائرة بوينج وليست شراعية. بوينج تتسع لأكثر من 500 فرد، ناس وشركات سياحية ألغت سفرها إلى مصر، وحين وصلت إلى مطار القاهرة وانتظرت حقيبتى على سير الحقائب رأيت أمامى على الشاشة رحلات أخرى وصلت طائراتها قبلنا من بودابست وجنوة ولم يأت على سير حقائب هذه الرحلات أكثر من عشرين أو ثلاثين حقيبة، مما يعنى لا أحد. وهكذا تصرخ الحكومة الفاشلة بالهراء عن توقف الإنتاج وتترك من يضرب أحد أهم مصادر الدخل القومى فى مقتل.
البحر المتوسط كان من أسمائه القديمة البحر الكبير وبحرنا، الآن للأسف، ليس لنا بحر رغم وجوده، لنا الصحراء وطالبان والوهابيون الذين لا أعرف كيف لا يرون أبدا ما حولهم فى الدنيا. وبعيدا عن ذلك كله كانت متعتى فى الطائرة هى قراءتى لكتاب طارق الطيب «محطات من السيرة الذاتية» المنشور بدار العين فى مصر بعد أن قرأت له من قبل رواياته التى عرفت طريقها إلى كثير من لغات الدنيا فلم تفارقنى روحه الإنسانية العذبة ولا سنوات الكفاح ليس من أجل حياة أفضل فقط، لكن من أجل أن تتسع الدنيا له ويكتب ما تريده الروح الجميلة التى منحها الله له.