الذين اقتربوا من عمار الشريعى، وتتهلل ملامحهم عندما يطل أو يذكر اسمه، ويحملون حكاياته ونوادره وألحانه فاكهة، والذين عملوا معه فى صناعة النغم وغنوا معه وله وعزفوا، يعرفون أن الخسارة فادحة وفى توقيت غريب، لم يكن عمار فناناً كبيراً ومعلماً وصديقاً وأخاً فقط، كان عنوانا لمصر المبدعة التى لا تعرف المستحيل، مصر المؤمنة المتسامحة الموهوبة المباغتة، يفيض نغما ومودة ورقة، إذا غبت عنه وتصافحتما حتى لو بعد سنوات لا تستغرب إذا قال لك «أنت خاسس ليه أو أنت مكتئب ليه؟»، سيعرف حالتك حتى لو كنت صامتاً، كان حكيه موسيقى، ويشاهد بعينيه وقلبه، تحرسه طفولة بعيدة وهو يحكى، صوته القريب من القلب يحرض على الفرح، ويأخذك إلى حيث تريد أن تكون، مع الموسيقى وفن تلاوة القرآن، مع الشعر العربى والإنسانى، مع ورطاته الكبيرة التى يحكيها بخفة ظل لا مثيل لها، مع تحليله الدقيق لمباريات شاهدتها معه، كان يريد أن يكون لاعب كرة قدم، وتحدى الكابتن عادل هيكل وبالفعل نزلا الملعب معا، كان يشاهد مباريات الأهلى فى المدرجات، إلى أن جاءت مباراة مع الزمالك وفاز فيها بهدفين أحدهما اشتهر فى العلوم الكروية بـ«جون مروان»، وهاج الجمهور الأحمر، وانهال الطوب من كل حدب وصوب، وهرب أصدقاؤه وتركوه يتلقى مصيره، فنام تحت أحد الكراسى إلى أن انتهت المعركة، وبحث الأمن عن شخص يعرفه ليأخذه إلى البيت، سيحكى لك عن أمه التى كان يعتبرها وزيرة ثقافة الفلكلور، والتى كانت تقول له إنه كان يحزن عندما تغنى له شيئاً حزيناً ويفرح مع الأغنيات المفرحة، ولكنه لا يذكر غير الإيقاع على ظهره وهو جالس على حجرها، سيحكى لك عن كمال ومحمد أبوإسماعيل ومحمد عبدالقادر وأبوصبرا مشايخ طفولته ونوادرهم ويحلل أصواتهم فى التلاوة والغناء، عن ذكرياته مع مولد سيدى عبدالملك المجاور، عن الغجر الذين صادقهم واحتفوا به لأنه ابن العمدة، عن خاله حسن (صديق عبدالعظيم عبدالحق ورؤوف ذهنى) الوحيد الذى شجعه على دراسة الموسيقى، فى مواجهة العائلة الارستقراطية التى أرادت من الطفل الكفيف أن يكون طه حسين، والذين فوجئوا أن هناك مدارس للمكفوفين، عن أصدقائه فى المدرسة وخلافاتهم الموسيقية، عن علاقته بمحمد عبدالوهاب الذى كون (مع بابا شارو) ذائقته، وكمال الطويل وأبوته، وسيد مكاوى، عن الـ99 قرشا أول أجر له عندما كان عازفاً فى أغنية محو الأمية الشهيرة «يا أهل بلدى فى كل مكان»، وعن أول جنيه كمحترف فى فرقة محمد عبدالمطلب، ثلاثة أعمال متزامنة أدخلت عمار الشريعى (المولود فى سمالوط فى إبريل 1948) عالم الشهرة كموسيقى محترف، فيلم الشك يا حبيبى ومسلسلى الأيام وبابا عبده ولحن أقوى من الزمن لشادية، كان ذلك فى 1978، وكان قبل ذلك لحن لمها صبرى امسكوا الخشب، بعد ذلك انحاز للأصوات الطالعة مثل على الحجار والحلو ومدحت صالح وغيرهم، وقطع مشواراً عظيماً مع سيد حجاب والأبنودى وبعد ذلك أحمد فؤاد نجم بالإضافة لشعراء آخرين، هو لا يتحدث عن ألحانه، فقط عن ألحان الآخرين، وعن مهارات العازفين والشعراء، كانت لغته العربية رائقة ورشيقة، ويعرف فى فن الشعر وبحوره وقراءات القرآن وشعر شكسبير وإليوت كأنه متخصص، كان صيادا لكل الأشياء التى لها قيمة فى الحياة، يفهم فى التكنولوجيا ويصلح الأجهزة المعقدة، ويبتكر برامج كميوتر تحمل اسمه، كان شخصاً نادراً، سهلاً كالماء وطيباً وحنوناً، أسعدنى زمانى بالاقتراب منه سنوات، وكان يملى على مقالاته الجميلة التى نشرها قبل خمسة عشر عاماً، وسنوات تكوينه فى مجلة الهلال فى زمن أبعد، وتعرفت من خلاله على عوالم وأشخاص وطرق كنت أجهلها، وكنت أشعر بالسلام والطمأنينة وأنا إلى جواره، ولا أعرف كيف أكتب عن أحساسى بفقده، لأنه رحل والسعادة عزيزة، وانخفاض منسوب البهجة يهدد بكارثة، رحل عمار الشريعى والمعركة على أشدها ضد الخيال والجمال والخير والجمال، رحل ونحن فى أشد الحاجة إليه.