سوف يظل الدستور المقترح من «جمهورية 30 يونيو 2012» بصرف النظر عن المصير الذى قد ينتهى إليه بالموافقة أو بالرفض، موضع مناقشات متنوعة من المهتمين بالشأن العام، وسوف تدخل مناقشاتهم فى دائرة التاريخ، وتكون شهادة على العصر تطلع عليها الأجيال التالية لتحكم لأصحابها أو عليهم. وفى هذا الخصوص فإن التاريخ يشهد أن الذين وضعوا الدستور فى بلادهم منذ بدأت الحركة الدستورية وضعوه على مقاس الطبقة الاجتماعية المسيطرة على السلطة، رغم أنهم أعلنوا أنه لأجل الأمة جمعاء. فلما وضع الدستور موضع التطبيق تبينت عوراته، وأمام موجة الاحتجاجات والتوترات المتكررة اضطرت السلطات الحاكمة الموافقة على إدخال تعديلات عليه من آن لآخر، حسب موازين القوة فى المجتمع.
وعلى سبيل المثال، يشهد التاريخ أن الدستور الأمريكى الذى صدر فى 1787 بعد عشر سنوات من نجاح الثورة على التاج البريطانى 1776، وضعته نخبة من الأثرياء والمتعلمين تعليما جامعيا دون تمثيل للسود والمرأة والعمال والهنود الحمر «سكان البلاد الأصليين»، فسيطرت عليهم مبادئ المحافظة على الملكية العقارية، والخوف من المشاركة السياسية للعامة. وسرعان ما تبين للشعب عورات هذا الدستور، وخلال أربع سنوات وحتى عام 1791 أدخلت عشرة تعديلات بشأن الحقوق، وحرية الاعتقاد والحديث والصحافة والاجتماع، وحظر التفتيش العشوائى، وعدم ازدواجية المحاكمة، ثم أدخلت ستة عشر تعديلا خلال المدة من 1791 - 1971، وتوالت التعديلات عبر الزمن، وحسب قوة حركة الاحتجاجات.
ولما انفجرت الثورة الفرنسية الشهيرة فى 14 يوليو 1789 رفعت شعار «الحرية والإخاء والمساوة» وكان هذا دليلا على افتقاد الفرنسيين ما يطالب به الشعار، إذ لم تكن هناك مساواة، والمواطن الفرنسى sitoyen هو الكاثوليكى فقط، وليس البروتستانتى، أو اليهودى، أو أصحاب العقائد الأخرى، وهذا يفسر كلمة «الإخاء» فى الشعار، فلما صدر دستور الثورة فى 1791، وضعته نخبة من البرجوازية «أصحاب رأس المال التجارى والصناعى»، لم ينص على إلغاء الرق والعبودية، ولم يعط للمرأة حقوق المساواة بالرجل، رغم كلمة «المساواة» فى شعار الثورة، وظلت المرأة على هامش المجتمع حتى أصدرت الجمهورية الرابعة دستورا فى عام 1946 أى بعد أكثر من قرن ونصف القرن من الثورة، ليقرر للمرأة حقوق المساواة والمواطنة.
وفى مصر، وعند وضع دستور 1923 أعدته نخبة اجتماعية اختارها الملك، فكانت نصوصه ومواده لصالح طبقة أصحاب المصالح الاقتصادية الجدد من كبار ملاك الأراضى الزراعية، وأصحاب رأس المال التجارى والصناعى الذين تتحالف مصالحهم مع مصالح الملك الذى يعتبر أكبر مالك للأرض الزراعية آنذاك، وأعلنوا فى الدستور أن الأمة مصدر السلطات.
وتدريجيا تبين للمراقبين أن «الأمة» مفهوم برجوزاى مستمد من مفاهيم الثورة الفرنسية البرجوازية، ومن هنا كان الدستور لصالح «البرجوازية» المصرية الجديدة التى تزعمت ثورة 1919، وأعطى الدستور للملك سلطات مطلقة جعلته حاكما مستبدا، وليس حكما بين السلطات، وهذا يفسر طبيعة الحركة السياسية فى مصر منذ الدستور، والتى كانت ضد الاستبداد.
والآن، وبعد تلك التجارب الدستورية العريضة، والتغييرات التى لاحقت الدساتير على مستوى العالم قديما من واقع التطبيق لتجنب «مختلف أوجه النقص والعوار»، هل يجوز أن يقع واضعو الدستور الجديد لمصر فى أخطاء الماضى، ويطلبون تمرير دستور فيه من العوار الكثير على أن تتم التعديلات فيما بعد؟!.. فلماذا العجلة، ولماذا لا نستفيد من التجارب، وندخل التعديلات المطلوبة بدلا من انتظار تجربة التطبيق ثم نطالب بالتعديل، ذلك أن أصحاب المصالح المتمترسين وراء النصوص سوف يرفضون إجراء أى تعديل من أى نوع، فينفتح الباب للثورة من جديد.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد يسري عبد الفتاح
دستور ساقط
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الحق
كتابة دستور، وليس مؤتمر شعبى!