إصرار السلطة فى مصر على إجراء الاستفتاء على مشروع الدستور فى ظل احتقان الأوضاع السياسية، ورفض كل قوى المعارضة مسودة الدستور، فضلا على الاعتراض على تشكيل الجمعية التأسيسية المختل لصالح حزبى النور والحرية والعدالة، أدى إلى انسحاب أغلب القوى السياسية من الجمعية قبل إصدار المسودة، ولا يمكن تفسير هذا إلا أنه بمثابة انتحار سياسى- لا شك- يؤدى إلى انهيار للأوضاع فى مصر.
فالدستور المقترح يؤسس لدولة استبدادية تركز السلطات فى يد رئيس الجمهورية، وتجعله فوق الحساب والمساءلة من جانب، وهيمنته على شؤون الحكم والمؤسسات الرقابية من جانب آخر، بالإضافة إلى إضعاف السلطة القضائية، فمن يقرأ الدستور يتوقف عند صلاحيات المحكمة الدستورية التى تم اختزالها فقط فى الرقابة على دستورية القوانين، بينما تم إغفال باقى الصلاحيات التى تقوم بها المحكمة الآن، ولا شك أن إحالة الدستور لمسائل تنظيم شؤون القضاء للقانون تمكن السلطة الحاكمة الآن من تقليص دور السلطة القضائية فى الرقابة القضائية على تصرفات الحكومة والدولة، تحقيقا لمبدأ سيادة القانون الذى يتطلب خضوع الجميع للقانون حكاما ومحكومين.
فمن يقرأ المشهد الحالى فى مصر يجد انتفاضة القضاة المصريين دفاعا عن استقلال السلطة القضائية، واستشعار خطر تغول السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، والذى تجلى فى إصدار إعلان دستورى بهدف إقصاء النائب العام بالمخالفة لقانون السلطة القضائية، وحصار المحكمة الدستورية العليا من جانب أنصار الرئيس وحزبه لمنعها من نظر قضية عدم دستورية قانون مجلس الشورى، ودعويين بشأن تشكيل الجمعية التأسيسية.
جانب آخر من الصورة يكشف عن عمق الأزمة، هو رفض الجمعيات العمومية لأندية القضاة ونادى مجلس الدولة للمشاركة فى إدارة الاستفتاء، وبالفعل بلغت نسبة الرافضين من القضاة 80% من قضاة مصر، مما أدى إلى الاعتماد بشكل أساسى على هيئة قضايا الدولة، وهم محامو الحكومة، كما أن النقص فى عدد القضاة أدى إلى ضم اللجان، وبلغ عدد المصوتين فى اللجان 6 آلاف ناخب، وفى هذا استحالة عملية لتصويت المصريين فى يوم واحد، وعلى أقصى تقدير يمكن أن يصوت 30%، مما يعنى أن الاستفتاء غير مشروع ومشوب بالبطلان.
فى هذه الظروف الصعبة على مصر، والاحتقان السياسى الواسع النطاق الذى تشهده، وكذلك التظاهرات والاعتصامات وحصار المحكمة الدستورية، وتصاعد وتيرة العنف، والتهديد باتساع نطاقه بعد محاولة حرق حزب الوفد، وتهديد مقرات التيار الشعبى، هل يمكن أن يولد دستور لمصر بعد الثورة؟، بالطبع لا يمكن، ولن يؤدى مرور الدستور بالتصويت- على افتراض حدوث ذلك- إلى تحقيق أى هدوء، بل المتوقع هو تصاعد الاحتجاجات، ويمكن أن تصل إلى حد العصيان المدنى العام، فهل الأوضاع فى مصر يمكن أن تتحمل هذا، أم أنها مرشحة أكثر للانفجار؟
يبدو أن الأسوأ لم يأت بعد فى ظل حالة من العناد والتصعيد من قبل السلطة، فيكفى الإشارة إلى بيان السيد عصام الحداد، مساعد رئيس الجمهورية، بشأن وصفه للمحكمة الدستورية بأنها من الثورة المضادة، وأيضا الإصرار على المضى قدما بالاستفتاء، مع دعوات للحوار تفتقد أى جدية، فالذى يدعو لحوار وطنى ليلة الجولة الثانية للاستفتاء لا يمكن أن يكون جادا، ومن يطلب الحوار مع رفض أى تغيير يمكن أن يحدث فى الجدول الزمنى الموضوع سلفا الاستفتاء، فإنه يكون كمن يزيد الزيت على النار.
لا أعتقد أن هناك تقدير موقف جادا من قبل السلطة تجاه الأوضاع فى مصر، وانعكاس هذا على الوضع الدولى، فتقييم مصر حاليا فى أغلب اتجاهات الرأى العام الدولى سلبى جداً، ويكاد أن يكون شكّل صدمة لم تكن منتظرة من مصر التى كان متوقعا اتجاهها لتأسيس دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان.
دون مبادرة جريئة وجادة توقف الاستفتاء أو تأجله لحين تحقيق توافق وطنى، وإيقاف الاحتراق الداخلى والتصعيد غير المبرر، مبادرة تهدف إلى تجسير الفجوة بين القوى السياسية والحكم، ودون شروط أو سقف محدد، بما فى ذلك إلغاء الاستفتاء، وتعديل مشروع الدستور، فإننا مقبلون على مصير مجهول.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة