تكاد تكون آفة السياسة فى مصر اليوم، هذا التأويل الذى يذهب بصاحبه إلى "فصفصة" الكلام.. نميمة شعبية، كأنها هتاف جماهيرى موحد فى مظاهرة، يرددها الجميع، وتنفخ قنوات تلفزيونية، محلية وأجنبية فى جدوتها، تؤججها، وترقص على جراحها، وتلطم فى أتراحها.. المسألة أكثر تعقيداً من مجرد مكاشفة فضائية، أو تعليق مذيع ينحاز لطرف أو لآخر، ويتناول القضية بتحليل مفرط يسفر عن وقيعة بين الشارع وظله.
الجميع يتصيد أخطاء الآخر، ويفّسر ما يُقال بتقنية ثلاثية الأبعاد، وتُصنّع العبارات لتصدر فى خطوط إنتاج فيس بوك وتويتر، ويعاد عرضها ملايين المرات فى مواقع التفاعل الاجتماعى، ولن تكون منظراً سياسياً مفوها إن لم تعرف تلك التفاصيل الدقيقة للقيل والقال، أو إن لم تسمع بزلة لسان ذلك الناشط، أو هفوة شيخ.. وصارت "فضيحة"، كلمة السر، لفتح باب يوتيوب على عصابة على بابا والأربعين حرامى وأكثر، والشبهة تطال البقية.
عبثية، وتبادل للسباب، وتأنيب، وابتزاز، وتصيّد، وتعرية، وتعليل مفرط لما ورائيات النوايا الحسنة والسيئة.. مؤامرات، وتمويل خارجى، وزيت وسكر، وقدح وقذف، وتخوين، وترويع، وتشويه الرموز التى عارضت، ووالت، وانقلبت..
تكفير، وتقزيم، وتأزيم.. احتكار للدين، وخروج عن النص والملة.. تخمين، واعتقاد، وتوصيف، ويقين، وقراءة كف، وردح وفضح على الهواء، ورفض للفكرة وما يسبقها، وما يتفتق عنها.. ودحض للمنطق وما يتناسق معه، وتقديس لكل شىء، وتدنيس أى شىء.. كراهية عمياء كأنها ثأر المهلهل.. تصفية حسابات، واتهامات معلبة.. تناقضات تمجد الرئيس المخلوع والموضوع وتشيّع الثورة إلى مثواها الأخير، تدفنها تحت أكوام من الضوضاء الفضائية والعنكبوتية، أو تُجْهز على نصف الشعب كى يتسنى لنصفه الآخر أن يمارس حقه فى الانتخاب.
فى هذه الفضائية، ترى أتباع الجماعة يعتدون على الشعب بالعصى، وفى تلك الفضائية ترى المعارضة تلاحق أنصار الحكومة بالحجارة والملوتوف.. ترصد الكاميرا غبارا فى محيط مسجد، ويحصيهم المراسل بالآلاف، ويورد المذيع خبرا بمليونية، ويترك الباقى على ذمة الراوى، والصورة لا تتسع إلا لبضع عشرات، تسمع المعلق يروى القصة وكأنها الثوانى الأخيرة من دربكة فى مستطيل الـ18 ياردة، لينهى النشرة بكلمة (جووول)... تظن أن نبوءة المايا تحل فى مصر، وأن الشعب بات يريد إسقاط نفسه.. ربما هناك قلة ممن يسكبون البنزين، لكن هناك الكثير ممن يشعلون أعواد الثقاب.
فى خضم هذا اللغط والتغول والتخبط، تستيقظ مصر كل صباح، تنادى "هنا القاهرة"، تفرد أرضها، وتبيع النعناع، وتشرب الشاى حلوا مع رغيف.. تنقب عن طعام لصغارها، وشمس تشرق لهم، ومكان يأوون إليه فى الليل، ونكتة جديدة تلخص الحدث.. تحمل على كتفيها شعبها والنيل، وثلاثة أهرامات، ومعبد، وفسحة لضيوفها.. أوجاعها ملح فقرائها، وقبورها سكن، وتراثها مدرسة، وموتها حياة، آلة بشرية عمرها سبعة آلاف عام ونيّف، لا تكل ولا تمل.. ابتلعت غزاتها وأذابت مرارتهم فى طميها هبة لعيدان القصب.
* كاتب أردنى ومدير الإعلام بمنظمة التعاون الإسلامى