يحاول التيار المدنى أن يقول إن معارضته للرئيس تجرى على أرضية سياسية، بل إن أحد رموز ذلك التيار اعترض على كلمة مدنى لأنها تعنى أن الانقسام يجرى على أرضية انقسام مدنى – دينى.. لا يمكننى الإغضاء عما يجرى من انقسام ثقافى وهوياتى ودينى كامن تحت ما يجرى من انقسام سياسى، فنحن أمام انقسام عمودى ورأسى فى المجتمع المصرى، والحديث يجرى عن فتح الباب أمام احتراب أهلى، ولا يمكن لهذا الانقسام الرأسى أن يكون سياسيا بلا مضامين متصلة بالثقافة والهوية.
لم يعد الفرز فى ميدان التحرير على أساس ثورى وإنما على أساس سياسى له مضامين ثقافية، فماذا يعنى أن يكون هناك تيارات ثورية انضمت إليها مؤخرا قوى تنتمى للنظام السابق وتؤيده وهى قوى مضادة للثورة، فى تقديرى أن العامل الهوياتى أو الثقافى الكامن تحت قمة جبل الجليد السياسى هو الذى سمح لتلك القوى الثورية أن تتغاضى عن الطابع الرجعى وغير الثورى للقوى المشاركة لها فى ميدان التحرير، فهناك أرضية ثقافية تجمعهم، هذه الأرضية الثقافية الجامعة لتلك القوى هى رفض القوى الإسلامية كقوة تستولى على السلطة وتحكم فى مصر.
جميع الموجودين فى ميدان التحرير بدءا بمؤيدى النظام السابق والمشاركين فيه إلى القوى الثورية التى شاركت فى الثورة إلى المسيحيين إلى الفنانين إلى الصحافين إلى المحامين إلى الإعلاميين إلى التيارات الاشتراكية والأناركية كلها ترفض ما تطلق عليه الدولة الدينية، وحين يقول لهم الإسلاميون إنه لا توجد دولة دينية فى الإسلام، وأن الموجود هو أحزاب ورؤى مدنية بمرجعية إسلامية يقولون نعم ولكننا لا نريد نخبة جديدة غير تلك التى تعودناها وألفناها وهى نخبة تستلهم قيم العلمانية والحداثة الغربية وترى أنها السبيل لإمكان حدوث نهضة فى مصر.
المنسحبون من الجمعية التأسيسية جميعهم يقول إنهم مع مادة مبادئ الشريعة الإسلامية، ولكنهم يتمسكون بالمبادئ التى تستبعد الأحكام، ورغم قناعتى شخصيا بالمادة كما هى فإن الإصرار من جانب القوى المدنية على رفض تفسير الأزهر للمادة ولو لمرة واحدة، يجعلنى أتشكك فى البعد الدينى للصراع الذى يتخذ شكلا سياسيا، خاصة أن التيارات المدنية أخذت فى طريقها ممثلى الكنائس الثلاث.
الإخوان المسلمون وحلفاؤهم من الإسلاميين من السلفيين والجماعة الإسلامية وحزب الوسط ومؤيدوهم فى الشارع حين يخرجون إلى الساحات والميادين يثيرون الاستغراب لدى القوى والتيارات المدنية، فهم لم يعتادوا نخبة مطلقى اللحى ويرتدون الجلابيب البيضاء أو يضعون الطواقى على رؤوسهم، فهم يستغربونهم، وقد يؤدى الاستغراب إلى التنافر وربما محاولة الاستبعاد والنفى.
هم يقولون إن المساجين لا يمكنهم أن يحكموا مصر، قد يقبلون بمعارضتهم وأن يكونوا نخبة فى المعارضة، أما أن يصلوا إلى قلب سدة السلطة التى هيئت ليكون الحاكم بها علمانيا فإن ذلك لأمر عجاب، التحولات الحادثة فى مصر والتى جاءت بالشريعة الإسلامية إلى مركز النقاش العام والتى جاءت بنخبة جديدة لم تعتدها النخب القديمة، وبمقولات جديدة فى الحكم والسياسة غريبة، ربما تكون تلك الأمور هى الأساسى الثقافى لتوحد ميدان التحرير، وتجاوز الثورة لصالح التوحد لمواجهة شأن ثقافى ترفضه تلك النخب، وهو جعل الدين والشريعة والهوية ونخبها التى تحملها فى قلب النقاش العام المصرى.
إعطاء القوى المدنية طابعا سياسيا للصراع حول الإعلان الدستورى لا يخفى العمق الثقافى فى المسألة، وهو ما يعنى أننا أمام صراع أعمق مما نعتقد حول هوية مصر ومستقبلها وسبل تحقيق النهوض بها.