أجل هو أبوالقاسم الشابى، شاعر تونس الأشهر رغم مضى السنين، الذى أحب أن أحييه اليوم وأنا أرى حولى الشعوب العربية تنتفض وتتكرر انتفاضاتها، بحيث صار الأمر كأنه شىء عادى ومتوقع يمكن أن ينسينا الشاعر، خاصة ونحن نرى كل يوم الثمن الباهظ الذى تدفعه الشعوب من أجل حريتها.
أبوالقاسم الشابى- ويا للعجب-ينتمى إلى المدرسة الرومانسية، رغم أن قصيدته الشهيرة صارت عنوانا للثورات العربية عبر التاريخ، وحياته أيضا أليمة، فلقد ولد عام 1909 فى قرية الشابة، إحدى ضواحى بلدة توزر فى تونس، وكان أبوه شيخا صالحا يعمل بسلك القضاء، ويتنقل بين البلاد التونسية، ويصطحب العائلة معه، فرأى الشاب الطبيعة التونسية الخلابة فى أجلى صورها، فى بلاد مثل سليانة وقفصة وقابس وتالة ورأس الجبل، وكلها بلاد ترددت أسماؤها فى الانتفاضة العظيمة للشعب التونسى، والتى سميت بثورة الياسمين، ضد الحاكم الأوحد الديكتاتور زين العابدين بن على.
ولد أبوالقاسم الشابى مريضا بداء القلب، ولم يظهر المرض عليه إلا فى الصبا والشباب، فحرمه المرض من متع الحياة وتألم لذلك أشد الألم. يرى الصبية والشباب يلهون ويسبحون ويتسلقون الجبال، وهو من ذلك كله محروم، وماتت حبيبته صغيرة فانفطر قلبه أكثر مما فيه من مرض، لكن ذلك كله لم يجعله كارها للحياة، بل احتفى بها أشد احتفاء، وواصل دراسته، فتخرج فى مدرسة الحقوق بتونس عام 1930، وكانت موهبته الأدبية قد ظهرت وعلت وارتفع نجمه بين الشعراء والكتاب، وحين مات عام 1934 أى فى الخامسة والعشرين من عمره كان قد ترك خلفه أكثر من ديوان ورواية ومسرحية. كان غزير الإنتاج، عميق التأمل فى النفس البشرية والكون والوجود، وذاعت فى العالم العربى كله قصيدته «إرادة الحياة» التى حفظ كل تلاميذ المدارس على مر العهود بيتيها الأولين الشهيرين:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلى
ولابد للقيد أن ينكسر
وجعلوهما عنوانا على التفاؤل، وعنوانا على الثورات الحقيقية لكل الشعوب العربية فى نضالها ضد الاستعمار. لكن أبا القاسم الشابى الذى عاش ومات فى الحقبة الاستعمارية الفرنسية، كان يبدع شعرا ليكون عنوانا على الحقيقة الأبدية، وحكمة خالدة لا يفوتها الزمن، شعرا هو من نبع الحب العميق للكون والحياة، يقول فى القصيدة نفسها:
وَمَنْ لَمْ يُعَانقهُ شوْقُ الْحَيَـاة
تَبَخَّـرَ فى جَوِّهَـا وَاندَثَر
فَوَيلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ
مِنْ صَفعَـةِ العَـدَم المُنتَصِر
كَذلِكَ قَالـتْ لِـيَ الكَائِنَاتُ
وَحَدثَنـى رُوحُـهَا المُستَتر
هى حكمة الوجود لشاعر عميق التأمل فى الكون والحياة كما كان الرومانتيكيون العظام. الأمر إذن يتجاوز السياسة بالمعنى السهل إلى الحياة بالمعنى الشامل، ويستمر فى القصيدة الرائعة:
إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غاية
رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذر
وَلَمْ أَتَجنَبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ
وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُستَعِر
وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ
يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْر بَيْنَ الحُفَـر
فَعَجَّتْ بِقَلبِى دِمَاءُ الشبَـابِ
وَضَجَّتْ بِصَدْرى ريَاحٌ أُخَر
وهكذا يمضى بك لتجد نفسك تبتعد عما تتصوره مقاومة إلى معنى الحياة الأعمق والأشمل، رغم ما تراه من معان قد ترتبط بما حولك من أوضاع زائلة. تستمر القصيدة فيسأل الأرض التى تأتيه بالحقيقة خالصة:
وَقَالَتْ لِىَ الأَرْضُ - لَمَّا سَألتُ:
«أَيَـاأُمُّ هَلْ تَكرَهينَ البَشر؟»
أُبَاركُ فى الناسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ
وَمَنْ يَستَلذ رُكوبَ الخَطَـر
وأَلعَنُ مَنْ لا يُمَاشِى الزَّمَـانَ
وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر
هُوَ الكَوْنُ حَىّ، يُحِـبُّ الحَيَاةَ
وَيَحْتَقرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
فَلا الأفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُور
وَلا النحْلُ يَلْثمُ مَيْتَ الزَّهَــر
وَلَـوْلا أُمُومَةُ قَلبِى الرَّؤُوم
لَمَا ضَمَّتِ المَيْتَ تلك الحُفَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الحَيَـاة
مِنْ لَعْنَةِ العَـدَمِ المُنتَصِـر!
إذن هو حب الحياة الذى جعل أبا القاسم الشابى العليل البدن يبدع هذه القصيدة الخالدة، وهل يمكن حب الحياة بدون وطن؟!. لقد لخصت الشعوب فى نضالها ضد الاستعمار حب الحياة فى حب الوطن، وكذلك فعل التونسيون أحفاد أبى القاسم الآن، لقد حفظنا ونحن تلاميذ صغار هذه القصيدة باعتبارها أنشودة الشعوب، ونارها فى نضالها ضد الاستعمار، وجاء أوان رفعها فى مكانها ضد النظم الظالمة التى حلّت محل الاستعمار، ولقد بدأ التونسيون ذلك، ورغم شهرة بيتها «إذا الشعب يوما أراد الحياة- فلابد أن يستجيب القدر» فأنا أنظر حولى إلى ما يحدث الآن من استمرار باهظ الكلفة للثورة المصرية يدفعه شباب مصر العظماء قبل غيرهم، وأقول للجميع ممن يقفون محايدين أو منتظرين أو رافضين بيتا خالدا آخر من قصيدته العابرة للزمن:
«فويل لمن لم تشقه الحياة- من لعنة العدم المنتصر».