لم يكن السفر إلى بورسعيد بقدرتى ومع ذلك كان مستحيلاً ألا أفعل، حذرنى بعضهم من المخاطر، وحذرنى بعضهم من أنه مجهد صحيا، وحذرنى آخرون من أن الزيارة قد لا تكون مفهومة فى هذا التوقيت، ولكننى حسمت أمرى، ورأيت أنه لابد من السفر، وأخذت أستعد له، وكنت أستعيد فى ذهنى بعض ما قرأته فى صحف الصباح، وكان أكثر ما أثر فى أننى قرأت أن جلال عامر فى المستشفى، أنا لا أعرف جلال عامر شخصيا، ولم ألتق به ولا مرة واحدة، لكننى أعجبت به إعجابا هائلا، ما يكتبه أحيانا كان احتفالية فى بيتنا، فكنت أقرؤه بصوت عال ومن حولى يضحكون أو يعلقون، كاتب من الكتاب الساخرين رأيت أن القوس الذى يجمعهم محمد عفيفى فى البداية وجلال عامر فى النهاية، سألنى أحدهم: من محمد عفيفى؟! قلت له وصدرى يضيق: أجمل وأعذب من كتب ساخراً، وكان أديبا وليس باحثا عن السخرية على أنها نوع من الكتابة المتفردة، أو أنها مساحة للهجوم أو تصفية الحسابات أو تخويف بعض الصغار أو حتى بعض الكبار! وكنت قد فكرت أن أسعى للاتصال بجلال عامر لأبدى له إعجابى، ولم أجد وسيلة لذلك، فأجلت ذلك إلى لقاء بالصدفة حسب المثل الذى «يقول مسير الحى يتلاقى!» وما أكثر ما نخدع أنفسنا، وقلت لنفسى: دعك من الأمثال القديمة، وقررت أن أسأل بطريقة أكثر جدية عن تليفونه لأطمئن عليه، وأنا أفكر فى ذلك سمعت صرخة جعلتنى أندفع إلى زوجتى لأسمعها تقول لى: جلال عامر مات! هذا الرجل الرائع الذى عشنا معه لحظات الضحك والبسمة مع العقل والموقف!
يا له من يوم!
عرفت أن كثيرين من الأدباء والفنانين سيذهبون إلى بورسعيد لمساندتها فى محنتها، ومحنتها ببساطة هى اتهامها بمذبحة الكرة دون دليل ولا مناقشة ولا محاكمة، وقد صدر الحكم بعقاب المدينة العظيمة بظلم غير مبرر، قال لى أحدهم أن قريبة له تذهب فى مواعيد دورية إلى مستشفى بالقاهرة لتأخذ إشعاعا ليعالج السرطان.. وأخذت تاكسى كعادتها، ووصل التاكسى إلى منتصف الطريق ليواجه مجموعة من السائقين وغيرهم يقفون فى طريق التاكسى، ويطالبونه بالعودة أو تدميره، وعاد التاكسى بسائقه الذى فضل أن يخسر الأجرة على أن يخسر السيارة، والمريضة التى لم تدرك أسباب العقاب حتى الآن.
وكان أول من قابلت محمد مهران أحد أبطال حرب 1956، والذى أسر آنئذ وقامت القوات البريطانية بنقله إلى قبرص لتجرى عملية جراحية تنقل بها بصره إلى ضابط إنجليزى، وكانت جريمة أخلاقية هائلة، حتى إن خطيبة الضابط الإنجليزى عندما عرفت بما حدث تخلت عنه، وأن هذا الضابط دفعه الفضول أو ربما تأنيب الضمير إلى السفر حتى بورسعيد حيث كان مهران يعمل مديرا للمتحف الحربى بقرار من جمال عبدالناصر، لكن شجاعة الضابط السابق خانته فانسحب من المتحف قبل مقابلته.
قلت لمهران: ماذا يحدث يا حاج فى بورسعيد؟ فربت على كأننى طفل خائف: لا تقلق، كل هذا طبيعى، ما حدث فى الاستاد مؤامرة، هذا طبيعى، هل تتوقع من الذين يسرقون مصر وهم يكرهونها ألا يقتلوا أبناءها، لكننا لن نتركهم يفعلون، علينا أن نطاردهم ونجدهم ونحاكمهم، ولا نستسلم لليأس كما فعلنا مرات وخسرنا الكثير.
قال أحدهم: لكن بعضهم يريد عقاب بورسعيد.
قاطعه مهران: لا أحد يستطيع عقاب بورسعيد، لأن بورسعيد هى مصر، ومصر لا تعاقب نفسها، ولسنا أغبياء لكى لا نرى المؤامرة، قضينا ساعات فى ميدان الشهداء وكانت قناة «الحياة» تجرى لقاءات بدأت ببعض أبطال بورسعيد وشعرائها، وكان الزحام شديدا رغم برودة الجو.
ودارت أحاديث كثيرة، وحكيت قصص تدمى القلب، ولكننى أترك ذلك كله لأحدثكم بما سمعته، وربما خفف على ما أحسه، فلقد سمعت خلفى - ونحن جالسون - صوتا يقول لأحد أفراد الإعداد: لا يمكن أن تأتوا إلى بورسعيد وتتجاهلوا الأستاذ «...» يجب أن يظهر فى التليفزيون ويتكلم، تعجبت قليلا من هذا الذى يلح ليظهر فى التليفزيون، وتدخل صوت آخر أدركت فوراً أنه الرجل الذى يسعى للظهور: كفى يا فلان.. ودعنى أشرح للأستاذة الموقف، فهى لا تدرك خطورته، أنا يا أستاذة: وأعوذ بالله من كلمة أنا.. بصراحة وأكشف لك ذلك لأول مرة.. أنا مرشح محتمل للرئاسة، وأنا لا أسعى إلى الرئاسة لمجرد الشهرة، ولكن لأن لدى برنامجا لابد من شرحه، ولعلمك زملائى وأصدقائى قاموا بدراسات انتهوا فيها إلى أن فرصتى أكبر من عمرو موسى وحمدين صباحى والعوا وعبدالمنعم أبوالفتوح، ولو تحقق هذا، وأنا متأكد أنه سيتحقق، فمعناه أنك خسرت مقابلة مهمة مع الرئيس المحتمل الذى سيكون رئيسا أكيدا، وتكون القناة أيضا خسرت هذه المقابلة، ولن تباهى بالمقابلة الحصرية.
بالطبع كان فريق الإعداد يناقش الرجل ويقاطعه، ويؤكدون له أن لديهم برنامجا محددا عليهم الالتزام به، لكنه كان طول الوقت قلقا عليهم لأنهم لن يقدموه فى لقاء حصرى!!
أظن أن «الرئيس المحتمل» سيكون أحد أبطال الأعمال الكوميدية فى السنوات القادمة.
وعدنا إلى الأحاديث الصعبة..
هل صرنا فى حرب تديرها الكلمات فإذا قال شخص - حتى لو كان مجهولا - كلمة أطلقنا الطلقات، ورفعنا الأسلحة البيضاء، وحاصرنا المدن؟ هكذا سألنى أحدهم.. قلت: فى رأيى، وأرجو ألا تأخذوا برأيى، أن مصر التى كانت تملك نخبة رفيعة المستوى ثقافيا، أخذت تفقد ثقافتها خلال الأربعين عاما الماضية، وبالتالى فقدت دورها الطلعى، وإذا فقدت النخبة الثقافة فقدها العامة بالطبع، العقل غاب فى معظم الأحيان، المنطق غاب، نسمع يوميا ما يجعلنا نضرب كفا بكف، نرى من الأحداث ما يجعلنا نظن أنه «كارتون» لولا أن الدماء تسيل منه، يصرخ أحدهم برأى يريد منا اتباعه، دون أن يفكر لحظة فيما قال!
وفى النهاية عدت من بورسعيد، كنت متعبًا وقلقًا وغاضبًا، ومع ذلك كنت متفائلاً.. تصوروا!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
rania
فعلا والفتنة اشد من القتل
عدد الردود 0
بواسطة:
بليغ فرغلى صالح
على اهالى الشهداء الاعتذار لجماهير الكرة ببورسعيد!!
يا راجل اتقى اللة
عدد الردود 0
بواسطة:
قنديل المنوفى
شطب النادى المصرى نهائيا- واعدام القتلة هو بداية الحل
عدد الردود 0
بواسطة:
masry
نؤيد شطب النادى المصرى
العنوان يكفى
عدد الردود 0
بواسطة:
masry
نؤيد شطب النادى المصرى
العنوان يكفى
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
الكاتب على حق والشهداء الغلطانين!!!!!!!!
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
الكاتب على حق والشهداء الغلطانين!!!!!!!!
عدد الردود 0
بواسطة:
مصراوي بورسعيدي
النادي المصري هو عاصمة بورسعيد
عدد الردود 0
بواسطة:
اسماعيل
كفاية حقد وغل على بورسعيد
عدد الردود 0
بواسطة:
زمالك واهلى ايد واحدة
لا بديل فعليا عن شطب النادى والا فلن نستطيع القول بتحقيق العدل