لم يكن غريباً أن يتصل بى صديقى «الباشمهندس» ويطلب منى موعدا لزيارتى، ولكنه فى هذه المرة حدد أن ذلك لسبب هام، لكنه لم يحدد السبب الهام، مما زاد فى غموض الموقف، ولم يشغلنى ما حدث فأنا أعرف صديقى «الباشمهندس»، حتى قبل أن يحظى بهذا اللقب بسنوات طويلة، وأعرف أيضاً وساسه الأمنية التى جعلته حذراً جداً عندما يتكلم فى التليفون.
وأذكر مرة جاء فيها ذكر وزير الداخلية فقاطعنى: إننا جميعاً نعرف أن معالى وزير الداخلية هو أفضل من تولى هذا المنصب فى تاريخ مصر، وربما فى تاريخ العالم!
ما أدهشنى هو أنه استأذن فى حضور بعض أصدقائه: خسمة أو ستة! رحبت طبعا، وإن كنت أتوقع أن يصحب شخصاً واحدا كعادته، فصديقى «الباشمهندس» لا يملك سيارة ولم يمارس قيادة السيارات فى يوم من الأيام، لكنه «يصطاد» شخصاً يأتى به إلىّ، وعادة ما يقدمه إلى: «فلان» معجب قديم بك، وعندما عرف أننى سأزورك صمم أن يأتى معى ليشرف بمعرفتك.. أو «علان» هذا مثقف جداً تصور أنه قرأ رواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ، ويريد استشارتك فيما يفعل قبل ذلك، أو «ترتان» المحامى اللوذعى صممت أن يصحبنى بعد أن عرفت أن لك قضية لا تعرف ما تفعل فيها!
كاد دائماً فى حاجة إلى «ضحية» واحدة أما خمسة أو ستة أشخاص فكان شيئاً غريباً.
المهم أنه أتى فى الموعد بخمسة أشخاص، عرفنى بأسمائهم بسرعة ثم تبع التعريف قائلا: إنهم أعضاء اللجنة العليا، فلما بدا على أننى لم أدرك مغزى ما قال شرح لى: أنهم اللجنة العليا التى تعد لانتخابات الرئاسة، ماذا أفعل يا صديقى الشعب يريدنى رئيساً، هل أتخلى عن رغبة الشعب؟!
بصراحة عجزت عن الكلام، قلت لنفسى فيما بعد: كان من الواجب تهنئة الرجل، على الأقل لأنه فى بيتى والأصول توجب مجاملته، ولكن يبدو أن الصورة كانت قوية، فصديقى «الباشمهندس».. لم يقرأ جريدة فى حياته، ولم يخرج فى مظاهرة تأييد أو احتجاج، ولم يبد رأيه فى قضية عامة، ولم يقل رأيا فى حزب.
أفقت على صديقى «الباشمهندس» يقول بشكوى فيها شىء من الفخر: ماذا أفعل.. فجأة وجدتنى رئيساً محتملاً!
وانفجر صوت ضخم جداً لا يناسب الرجل النحيل جداً: الرئيس على الكرسى إن شاء الله!
وقال الرجل الذى سقطت معظم أسنانه: لابد أن ينجح الباشمهندس نحن شباب الثورة!
كان صديقى «الباشمهندس» فى أحسن أحواله، منتشياً متأنقاً كأنه ليس هو، قال: بعد مشاورات مع الإخوة فأنا رئيس ديمقراطى وأنت بالذات تعرف مدى عشقى للديمقراطية والأمة كلها تعرف.. أنا يا صديقى أردد كلمة ديمقراطية خمسين مرة صباحاً ومائة مرة ليلاً، المهم أننى تحاورت مع السادة أعضاء اللجنة وقررنا أن نبدأ الحملة من منزلك المبارك!!
تأثرت كثيراً وخشيت أن تترقرق الدموع فى عينى وقلت: أنا ممتن جداً يا صديقى الباشمهندس، فأنا لم أحضر أحداثاً هامة خاصة بحجم الترشح للرئاسة، ومنزلى هذا لم يمر به حادث واحد مهم سوى احتراق التليفزيون، وأظن أن السبب كان أحد البرامج، وها أنت يا صديقى تشرفنى بأن تزورنى فى بيتى أنت ولجنتك الكبرى لتعلن من هنا حملتك الرئاسية.
وبعد كلمات مجاملة مقتضبة اتكأ على كرسيه وأغمض عينيه نصف إغماضة، وقال فى همس رومانسى: يا صديقى أنا لم أقبل الترشح للرئاسة من باب الوجاهة أو السلطة، أو الزعامة، لا.. لقد تأملت نفسى وتأملت بقية المرشحين، وازنت بينى وبينهم فوجدت أننى أفضل منهم فى كل شىء.
وفجأة صرخ أحدهم: عاش الباشمهندس!
واستمر صديقى يتأمل ويتكلم: أنا لا أريد أن أكون رئيساً.
قاطعه أحد أعضاء اللجنة: لكن مصر تريدك رئيسا، هل ترفض طلب مصر؟!
طبعاً أحسست أننى وقعت فى «مطب» رهيب، وتلفت لأسأل أحدهم: وأنت يا كابتن ألم تفكر فى الترشح للرئاسة!
رد على فى حزم: لا.. لدى أمور تشغلنى.
سألت الثانى: وأنت لم تفكر؟ نفى قائلاً: أنا ساكن فى قليوب والمشوار طويل على، وقال الثالث: أنا طبيعتى مساعدة الإخوان، ولا أريد شيئاً لنفسى، وقال الرابع: فكرت ولكن عندما عرفت أن السيد الباشمهندس سيترشح تنازلت فورا، نحن ناس عندنا أخلاق!
أحسست أننى فى متحف «مدام تاسو»، وأن هؤلاء تماثيل ناطقة، كانوا جميعاً واثقين من أنفسهم متخمين بالعظمة.. أنا أضمن للباشمهندس من أربعة ملايين صوت إلى خمسة ملايين، وأظن أن اللجنة تستطيع تكملة الباقى، «عليكم مصر، وعلىّ لجان الانتخابات فى الخارج كلها مضمونة للباشمهندس»، «أنا لست متفائلاً مثلكم وأظن أنه ستكون هناك إعادة بين الباشمهندس ومرشح آخر، وفى هذه الحالة أضمن نجاح الباشمهندس».
فى عهد الرئيس السابق الذى أخذ من عمرنا ثلاثين عاماً قال البعض: ولم لا يترشح شخص آخر غير الرئيس أو مع الرئيس، وكانوا يقولون لنا: ومن ترى يصلح لذلك؟ وعندما تطرح أى اسم ينهالون عليه سخرية، وصديق لى قديم رد على سؤالهم: صلاح الدين الأيوبى! فقال له قيادى بالحزب الوطنى: صلاح الدين الأيوبى كردى وليس لديه الجنسية المصرية. وعندما ترشح الدكتور أيمن نور للرئاسة أروه نجوم الظهر.
ولكن القضية أيضاً كانت فى «البارانويا» فالرئيس السابق عندما سألوه لماذا لا يعين نائباً قال إنه لم يجد من يصلح، وكانت إجابة خاطئة وتساءل البعض همسا: وهل الرئيس يصلح؟ واتضح أنه لا يصلح.
البارانويا.. وصلت إلى أبعد مما تتصور، صديق لى ركب تاكسى وقال السائق: أتعرف من أشعل ثورة 25 يناير؟ وضرب على صدره: أنا وأعوذ بالله من قولة أنا! وشرح ذلك بأنه ألقى قنبلة مولوتوف فى الميدان، وهدد إذا لم يأخذ حقه فسيقوم بثورة أخرى.
نصلح أو لا نصلح؟ هذا هو السؤال. وأظن أن الإجابة عليه: علينا أن نعمل كى نصلح!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ايمن رشدي
عفواً... تصحيح
عدد الردود 0
بواسطة:
واحد
ميجالو مانيا
أما صاحب البارانويا فقد ورد اسمه بالمقال.