إبراهيم عبد المجيد

الغناء والغواية.. السيرينيات

الجمعة، 24 فبراير 2012 08:04 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى الأساطير اليونانية تجد الأصل فى معنى كل شىء مرّ ويمرّ على البشر، أساطير الآلهة أو البشر، أو هما معًا، والحديث عنها طويل، وهناك العشرات من الكتب يمكن أن تقرأها فى ذلك، وتستطيع أن تستغنى عن كل الكتب إذا قرأت الملحمتين الخالدتين الإلياذة والأوديسة لهوميروس، وإذا كانت هذه الأساطير لم تحدث أصلاً، وكانت من خيال البشر فهذا يعنى قدمها مع البشرية، ويعنى أنها كانت حاجة ضرورية ليفهم الإنسان العالم، ومن هذه الأساطير التى أتذكرها كثيرًا أسطورة السيرينيات، أوالمغنيات المفترسات، أتذكرها منذ أربعين سنة لأنه منذ ذلك الوقت راجت فى كثير من المساجد الدعوة إلى وقف الغناء، واشتهر شيوخ بسبهم الفنانين، المطربين بالذات، ونال العظماء منهم مثل أم كلثوم وعبدالحليم حافظ كثير من لعنات رجل مثل الشيخ كشك مثلاً، الذى كنت فى السبعينيات أسكن فى شقة قريبة من جامعه بشارع السودان فى دير الملاك، كنت أضحك وأنا أسمع سبابه، وأسأل نفسى: هل أجبر أحد الإنسان على الغناء مثلاً أم اكتشفه وحده وراح يدندن بآلامه وأحلامه؟هل الغناء صناعة أم هو ابن الطبيعة، طبعًا لا خلاف على أنه ابن الطبيعة وابن الألم أو الفرح، وكل ما يقال فى الغناء يهدهد المشاعر، يحزنها أو يفرحها فينقلها إلى حالة عذبة من صفاء الروح، والإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يتوقف عن الغناء، وإذا كان قد صار مهنة فهذا لأنه ليس كل إنسان يملك صوتًا جميلاً، والإنسان يعشق الأصوات الجميلة، المهم أن نبتعد عن هذه النقطة التى لا تحتاج إلى ما هو أكثر ونعود إلى السيرينيات، النساء الجميلات اللاتى يخرجن من أعماق البحار يحملن الآلات الموسيقية ويغنين للبحارة عابرى البحار فيتركن السفن ويمشين وراء الأصوات فتذهب بهم النساء المغنيات إلى أعماق المحيط ولا يعدن للحياة، هنا الغواية بالمعنى الواسع، ليست غواية المرأة ولا غواية الغناء، إنما هى الغواية التى تقدم لك نفسها فيما تحب فتأخذك إلى لا عودة، اشتهرت السيرينيات بما فعله يوليسيسز أو أوليس وهو عائد من حرب طروادة، ومعروف طبعًا أن أوليس لم يعد بسهولة، إنما لاقى الأهوال عشر سنوات حتى عاد إلى موطنه، وطوال الرحلة وما لاقى فيها من أهوال تفصح الأساطير اليونانية عن معانٍ خالدة، أوليس، أو الرجل كثير الحيل، كما يعنى اسمه، كان يعرف نهاية هذه الغواية، أمر بحارته أن يضعوا فى آذانهم الشمع حتى لا يسمعوا السيرينيات، لكنه هو يريد أن يسمع، لذلك أمرهم أن يربطوه فى صارى السفينة ليعجز عن اللحاق بالأصوات، بالغواية، لكنه لم يستطع المقاومة رغم ما فعله، جاهد أن يفك أربطته، ونجح فى فكها، وجاءته ثورة من الرغبة وهو يقاوم الاندفاع فمزق ملابسه وشد شعره وكاد يمضى وراء السيرينيات، لولا بحارته المخلصون الذين أمسكوا به، قاومهم أشد مقاومة لكنهم استطاعوا الإمساك به حتى عبروا بسلام فوق الماء من أمام السيرينيات ولم يسقط أحد منهم فى البحر، فى الأسطورة معنى كبير للغناء كطريق للغواية، وفى الأسطورة أيضًا احتفاء بالغناء الذى جعلته السيرينيات وسيلة للإغواء، وهى لم تستخدمه إلا لأنها تعرف حب الإنسان له، هو سببه وهو موجده فى سنوات وجوده الأول فوق الأرض، هو سر متعته وهو سر راحته ومحبته للكون والوجود حتى لو أنشج فى البكاء، وإذا استطعت أن تتخيل الإنسان البدائى فى وحدته أو حيرته فلابد أنك ستعرف أنه حين رفع صوته بالغناء رفعه وحده دون أن يأمره أحد، تمامًا كما رسم على جدران الكهوف أشكالاً من الحيوانات والطيور التى يحبها لتؤنس وحشته أو يخشاها ليتقى شرها،الإنسان المسكين الذى يتخلى عنه كل شىء يلوذ بالغناء لتستقيم حياته ولو إلى حين،زمان فى طفولتى عشت بعض الوقت فى الصحراء مع أبى رحمه الله الذى كان عمله يستدعى ذلك، كنت كثيرًا ما أرى واحدًا من البدو يمشى وحيدًا وسط الرمال، وإذا به فجأة بعد أن يبتعد عن الناس يرفع صوته بالغناء، هكذا وحده دون أن يطلب منه أحد ذلك، لقد فعل ذلك فى اللحظة التى صار فيها وحيدًا فى الكون، وهكذا يفعل الفلاحون فى حقولهم أفرادًا أو جماعة لأنه شيئًا فشيئًا صار الغناء طاقة ليس على تحمل صبوات أو عذاب الروح فقط، ولكن أيضًا عذاب البدن، وهكذا يغنى العمال فى أعمالهم الصعبة، لم يعد الغناء يؤنس الإنسان الوحيد فقط، ولكن يؤنس الجماعة أيضًا، فى الأسطورة تأكيد على أن الإنسان يعشق الغناء ولا يمكن إلا أن يمضى وراءه، والأهم هو أن الإنسان يستطيع تفادى الغواية وليس الغناء، الغواية بمعناها الواسع إذا أراد، إذن فلنتفادَ الغواية، لكن أحدًا لن يستطيع أبدًا تفادى الغناء.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة