هذا الفيلم التسجيلى «جلد حى» وحده كان كفيلا بإعدام أصحاب وسادة النظام السابق
مثلى لا يفاجأ بأى شىء بشع أصاب المصريين فى حياتهم بعد أربعين سنة من حكم السادات وحسنى مبارك.. الأول اعتبر نفسه رب العائلة وفتح الباب واسعا للصوص العائلة يسرقون مالها بحجة المشروع الحر وبحجة الحرية والتخلص من النظام الشمولى الناصرى، بينما هو فى الحقيقة كان جزءا من حرب عالمية على كل ما له علاقة بالاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتى الذى سقط بالفعل، وكان للحرب فى أفغانستان وتدريب الكوادر المناهضة له فى مصر باتفاق أمريكى سعودى مصرى أثر كبير فى هذا السقوط.
وأنا هنا لا أدافع عن سقوط الاتحاد السوفييتى، فالنظام الشيوعى هناك كان يفتقد أى حس إنسانى والدولة السوفييتية خرجت من عبودية الإقطاع والحكم القيصرى إلى عبودية الحزب الواحد.. لا علاقة لنا بهذا كله، فلم نكن نعيش تحت الحكم الناصرى فى ظل العبودية، بل كانت هناك نهضة فى الصناعة والزراعة والتجارة والتعليم والفن، كان يمكن البناء عليها واستكمال ما عاب التجربة الناصرية من حكم الفرد وعدم تحقق الديمقراطية، الذى حدث أنه لا ديمقراطية تحققت ولا مشروع حرا حقيقيا بدأ.
وكلنا يذكر - جيلى أعنى - حركة الهروب الكبير لبعض ممن سمى برجال الأعمال بأموال البلد، وكلنا يذكر كيف استمرت هذه السياسة بشكل أبشع فى عهد مبارك الذى بيعت فيه كل مقدرات الوطن واستحكمت القبضة الأمنية على الشعب.. عبدالناصر كان يعتقل السياسيين المناوئين من اليسار واليمين، والسادات صار يعتقل اليسار ويشجع اليمين، الإخوان من فضلك، وحسنى مبارك اعتقل الشعب كله يمينه ويساره.. إذا حدثتنى عن العشوائيات بأى حديث غريب فسأصدقك، وإذا حدثتنى عن انحدار مستوى الفقر إلى أدنى مستوى فسأصدقك لأنى أراه حولى فى الشوارع.
وإذا قدمت لى فيلما تسجيليا أو روائيا عن ذلك فسأصدقك، لكن إذا فعلت كما فعل المخرج الشاب فوزى صالح فسأبكى وأنا أصدقك أيضا، وفوزى صالح شاعر سبق له أن أصدر ديوانا من الشعر من قبل، لذلك لم يكن اسمه غريبا وأنا أمسك بسى دى الفيلم فى يدى، وعرفت أنه مخرج الفيلم، وهو من قبل إخراج الفيلم عمل كمساعد مخرج أول وملاحظ حركة ومنفذ إنتاج، وهى كلها خبرات هامة للمخرج الواعد.
كان فيلمه التسجيلى هذا «جلد حى» حلمه ووجد من يساعده على تحقيق الفيلم وهو الفنان الكبير محمود حميدة – شركة البطريق للإنتاج – الذى أنتج الفيلم وساهم فى إنتاجه أيضا الصندوق العربى للثقافة والفنون ومعهد صاندانس للأفلام الوثائقية.. بين الفيلم الأول لفوزى صالح الذى أنتجه المركز القومى للسينما، وكان فيلما تجريبيا طوله أربع دقائق ويحمل عنوان موكا، وبين هذا الفيلم أربع سنوات.. الأول عام 2006 والثانى عام 2010، وهى سنوات لابد أنها ضاعت فى كتابة هذا الفيلم والاستعداد له.. كان هذا الفيلم حلمه قبل أن يتخرج فى معهد السينما عام 2009 واشترك بالفيلم بعد ذلك فى أكثر من مهرجان دولى، مثل مهرجان أبوظبى الذى حصل فيه على جائزة، ومهرجان تطوان ومهرجان بغداد، لكن ما هو الفيلم؟ الفيلم عن الأطفال العاملين فى المدابغ، وعن الكبار أيضا.. والمدابغ التى تقع فى منطقة مجرى العيون نعرفها جميعا لكن لم ندخلها، ربما ذهب البعض لشراء أحذية من هناك، لكن المؤكد أنه لم يدخل إلى المدابغ نفسها إلا العاملون فيها لأنه ببساطة لا يمكن لأحد أن يتحمل دخولها فما بالك بالحياة فيها، الفيلم الرائع يتقصى حياة الأطفال من خلال أحاديثهم والظروف التى وضعتهم فى هذا المكان ومن خلال أحاديثهم التى تشق الحجر من البؤس تراهم أيضا يحبون ويعرفون طريق البنات ويتحدثون عن ذلك بجمال وبساطة فائقة فى الوقت الذى لا تنسى فيه قصص الفقر التى دفعتهم هنا ولا تنسى وجوههم النضرة الجميلة بين أسوأ ما يمكن أن تتخيله من قذارة، آلات قديمة يعلوها البؤس وجلود حية من حيوانات ميتة أو حية ومواد كيماوية أقلها ماء النار وتوصيلات كهربية بدائية وسلالم وبنيان أشبه بالمعتقل الذى ينام فيه أكبر ظلم يمكن أن يصيب البشر. وكما يبدأ الفيلم بغناء صوفى جميل للشيخ ياسين التهامى ينتهى به كذلك فى حضرة السيدة زينب، والأطفال الآن ارتدوا أحسن ما لديهم وراحوا يرقصون مع أهل الطريقة ويتمايلون سعادة كأنهم خارج الزمن، وهم بالفعل خارج الزمن، ليس لأن دباغة الجلود مهنة هذا هو قانونها، لكن لأن هذا هو حالها فى مصر الآن.. شىء لا يصدق ولا أصدقه أنا بالذات ابن الإسكندرية الذى كانت مدرسته الإعدادية فى الورديان بالإسكندرية فى الستينيات من القرن الماضى وقريبا منها السلخانة ومصانع المدابغ اليونانية التى كنا نشم رائحتها ونحن فى الطريق إلى المكس، لكن المصانع كانت مصانع خالية من الأطفال وكانت بها ماكينات وآلات ليست كالتى رأيناها فى الفيلم الذى تتم فيه الدباغة بطرق بدائية وأكثر من بدائية.
المخرج أحاط بكاميرته التى حركها مدير التصوير إلى كل شىء يناقض الإنسانية ويعارض البراءة التى على وجوه الأطفال والكبار المنكسرين أيضا من فضلك.. جلد حى وسط عالم ميت من الظلم والقهر والتخلف يحيطه الموت.. تحية لفوزى صالح الشاعر الذى لم ينس وسط هذا البؤس والموت أن يعطى الفرصة للروح الإنسانى الجميل الكامن فى الأطفال للظهور كأنه يزيد من ألمنا ومن التناقض البشع الذى نراه أمامنا بين الطفولة البريئة والظلم الكبير.. فيلم كهذا وحده كان كفيلا بإعدام أصحاب وسادة النظام السابق وأى نظام من فضلك، والأهم هو جمال الفيلم السينمائى أيضا، تحية لفوزى صالح المخرج النابه والناشط السياسى أيضا والشاعر، وتحية لكل من أسهم فى هذا الفيلم.