لا يمكن تفسير المأساة التى وقعت فى بور سعيد فى الأول من فبراير المنصرم، إلا ضمن سلسلة الصراع المحتدم بين الثوار وغالبية شعب مصر البسيط من ناحية، وبين من يملكون السلطة الآن (المجلس العسكرى) وبقية أجنحة الطبقة الجشعة والمستبدة التى تحكمنا منذ عقود أربعة تقريباً من ناحية أخرى.
هكذا إذن يعاقب المجلس العسكرى المصريين وينتقم منهم لأنهم استطاعوا أن ينزعوا عن أنفسهم ثياب الجبن، ويخرجوا بالملايين مدججين بجسارة مذهلة يطالبون برحيل مبارك (كبيرهم الذى علمهم البطش) فى ثورة سلمية رائعة الملامح. فى جعبتى أكثر من دليل على أن المجلس يعاقبنا بقسوة بامتداد عام كامل. خذ عندك: أحداث مسرح البالون، ماسبيرو، العباسية، ومجلس الوزراء، شارع محمد محمود، وأخيراً بور سعيد الباسلة التى لا يمكن أن يصدق أحد أن شعبها الجرىء ظل متربصاً بمشجعى الأهلى ليقتل منهم 74 (ابتهاجاً) بفوزه عليه 3/1!
لا تنس من فضلك أن المجلس العسكرى يؤكد فى كل حادثة يروح ضحيتها ثوار شرفاء أن هناك طرفاً ثالثاً هو الذى يدير ويحوك المؤامرات، لكنه أبداً لا يكشف لنا من هذا الطرف الثالث، ولا يقدم أحداً من الكبار إلى محاكمة جادة. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الرئيس المخلوع وزبانيته ما زالوا يتمتعون بمحاكمات رخوة لا تنتهى، وأن بعض الضباط المتهمين بقتل الثوار خطفوا البراءة فى أحكام متعددة، لتأكد لك انحياز المجلس العسكرى (الذى يحكم مصر منذ 11 فبراير 2011 وحتى الآن) إلى الطبقة المشبوهة التى تستحوذ على السلطة والمال والنفوذ منذ أربعين سنة، فى الوقت الذى يخاصم فيه هذا المجلس الجماهير العريضة ويتوعدها.
ولعلك انتبهت إلى أن مصيبة بور سعيد وقعت بعد أن احتشدت الجماهير فى ثلاثاء الإصرار وجمعة 27 يناير تطالب بنقل السلطة إلى المدنيين. وبالتالى كان العقاب قاسياً من قبل العسكر، فأطلقوا عملاءهم ليرتكبوا جريمة خسيسة فى مدينة باسلة حققت سمعة ناصعة فى مقاومة العدوان والاستعمار.
مرة أخرى نكرر أن الصراع ما زال قائماً بين الذين يملكون السلطة والنفوذ والمال (المجلس العسكرى، بقايا النظام القديم، قادة الأحزاب الانتهازية، كتيبة الإعلام الرسمى المشبوه)، وبين الذين لا يملكون شيئاً (الثوار الشرفاء، العمال والفلاحون، الموظفون الصغار، العاطلون رغماً عنهم، المهمشون)، سوى إيمانهم بقضاياهم ورغبتهم فى تشييد مجتمع أكثر عدلاً وحرية وجمالاً. ولست أشك لحظة واحدة فى أن الشعب المصرى العظيم سيحقق أحلامه المشروعة ويكمل ثورته التى خطفوها منه فى لحظة غفلة مشؤومة.
ملحوظة قد تكون ضرورية:
يحدث أحياناً أن يكتب المرء مقالاً ما فى قضية محددة، ويتأخر النشر قليلاً لأسباب معينة، لكن حين يتم النشر تكون جرت فى النهر مياه كثيرة، فيبدو المقال خارج السياق، وقد يستفز القارئ الكريم الذى ينتظر أن يطالع تحليلاً منطقياً للوقائع الجديدة، وهذا ما حدث لمقالى الأخير (أين كان هؤلاء قبل الثورة بيوم واحد؟) الذى أرسلته قبل مأساة بور سعيد، لكنه نشر ليل الخميس الماضى، أى فى ذروة الأحداث وتداعياتها، الأمر الذى استفز كثيراً من القراء الكرام، وطالبونى بالإجابة عن سؤالى أين كنت أنا تحديداً؟. فقط سأحيل من سألنى إلى مطالعة مقالاتى فى موقع اليوم السابع قبل الثورة بشهور وأثنائها وبعدها وحتى الآن، عسى أن يجد شيئاً يفيده. ومع خالص شكرى للقارئ الكريم، أياً كان موقفه من كتاباتى!.