أيمن عبوشى

إنهم يفكرون بصوت عال.. إنهم يملأون الدنيا ضجيجاً

السبت، 10 مارس 2012 10:53 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عندما أعلنت كونداليزا رايس، عبارتها الشهيرة، "الفوضى الخلاقة"، كوصف مبتكر للوضع المتفجر فى العراق، والذى يفترض به - أمريكياً - أن يتمخض عن ديمقراطية تولد من ركام الهزيمة، اعتقد بعض المراقبين العرب أن التقليد الأمريكى لسلسلة أعمال الفوضى فى منطقة الشرق الأوسط، سوف ينحصر فى مخطط تآمرى يطلق حروبا أهلية تندلع بعد عمل عسكرى خارجى، ويزيل الأنظمة الديكتاتورية بالقوة، ويستعيض عنها بأنظمة ديمقراطية هشة غير قادرة على لجم الشعب الوحشى الجائع بعد سنوات قحط حرية التعبير والحقوق.. ولم يكن حينها ممكنا الفصل بين فكرة قدوم المحافظين الجدد، ومؤامرة صياغة شرق أوسط جديد أقل تماسكا، وأكثر تشظيا.

بيد أن هذا الكلام بدأ يخبو مع مجىء إدارة باراك أوباما التى جاهرت فى استهلالتها برفض مبدأ الحلول العسكرية، والتى سجلت فى المقابل انسحابا أمريكيا تاريخيا من العراق.
وانتهت فوبيا "الصدمة والترويع" التى بثها جورج بوش الابن فى مفاصل بعض الزعماء العرب، وألهمت منظرى الشارع بما قد تسفر عنه من انهيار مؤسسة الدولة، ونشوب حروب طائفية أو عرقية، لكن لا يلاحظ هؤلاء أن الفوضى الفكرية الموازية التى تستعر جمراتها أسفل طبقات من الرماد البارد، تكمن فى الشروخ التى تسبق الانهيار الكامل، ومعارك النمل التى تدور رحاها على أسطح الشاشات المضيئة بين مراهقين ينشأون على الانكفاء والعنصرية، حتى بات السجال اليومى، تسلية يتندر بها البعض دون أن يدرك مداها الذى يأخذ المتصفحين إلى مجاهل الكراهية العمياء، والأحكام الانفعالية.

فبعد أن أصبح الإنترنت منهلا للأخبار باختلاف دقتها ومصداقيتها طالما الأمر يمر مرور الكرام، تراجعت فى المقابل قدرة المؤسسات الإعلامية، ومراكز الأبحاث، على مجاراة أخبار الإثارة لمواقع متوسطة الكفاءة أو معدومة الخبرة، وما يمكن إضافته عبر صفحات التفاعل الاجتماعى من فيس بوك وتويتر وغيرها من انفعالات الجدل السطحى حول قضية بائسة أو محتدمة.. باختصار، بات المستخدمون اليوميون لوسائل الإنترنت، يفكرون بصوت عال، يسمعه الجميع، ويصنع ضجيجا منفرا، والمؤسف أن يتمكن أحدنا من سماع الآراء المنفردة، باعتبارها رأى الأغلبية الصامتة، لتشكل بالتالى الانطباع العام حول مصير الأمة وخياراتها، وتصبح مباراة كرة قدم ـ يشوبها بعض الشغب ـ (حرب داحس والغبراء) التى تخلق خصومة لمائة عام وأكثر.

لطالما تغنى بعض صنّاع الإعلام العربى بقدرة المدونات على التغيير السياسى المأمول، لكن لم تعرف هذه النخبة، ما يمكن أن تفعله الارتجالية التى يشوبها الجهل، أو المفتقدة للمنطق، فى خلق وعى مشوّه لدى جيل تأخذه العزة بالإثم.

إن قراءة صغيرة لتعليقات مرتادى صفحات التفاعل الاجتماعى، أو اليوتيوب، تأخذنا إلى مناخات من الانفعال والانحياز والتعصب لثقافة أو عرق أو دين أو طائفة، وتعكس مدى التفسخ، وهوان المبادئ، وضحالة الأحكام، لتبنى تدريجيا طبقة سميكة وصلبة من الانطباعات المسبّقة، المتلازمة مع الأيقونات والصور والتعليقات.

وصار سهلا أن نرهن المثالية المطلقة لقضية رمزية، بالحلول المتراخية والمستهترة، التى تجيز أى شىء، وتحلل ما كان محرما، خرقا صريحا لمبدأ العين بالعين، وتجاوزا له إلى خيار هدم المعبد على من فيه.

ولم يكن ذلك مستغربا، لا سيما أن الرؤية بعيدة المدى، تغيب عن النخبة التى اكتفت بالوقوف فوق قمة جبل الجليد للإطلال على مخرج من أزمة الديكتاتوريات، تاركة أسفلها لعلم الغيب، فى الوقت الذى نلمس فيه طغيانا إعلاميا يستمد قوته من حياديته المنمقة، وجرأة استقاها إبان سنوات الممانعة التى أفسحت المجال أمام كومبارس الكفاح المسلح للإغداق على المشاهد العربى بشعارات من الوزن الثقيل، وخلط ما هو ممكن بما هو رومانسى مستعينين بتهمة العمالة، سلاح ردع فعال أمام أى تحكيم منطقى يناقض حججهم، وهم المنظرون أنفسهم الذين يصدرون الواقعية الآن حلا، بعد أن كانت بالأمس القريب مدعاتهم للتخوين والابتذال.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة