حلمى النمنم

لقاء العزاء

الأحد، 11 مارس 2012 04:04 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
حياة د.ثروت عكاشة مليئة وغنية بالدلالات والإنجازات، قد لا يتسع مقال لذكرها، لكن عزاء د.ثروت حمل - وحده - الكثير من الدلالات والمعانى، كان فى العزاء معظم أطياف المجتمع المصرى، كان هناك الناصريون، وبعضهم من رفاق د.ثروت، والوفديون، والساداتيون، وبعض رجال مبارك «الفلول»، فضلا على كتاب ومثقفين من المنخرطين فى الحالة الثورية التى تعيشها مصر.. جلس الجميع فى العزاء متجاورين.
أكرر دائما أن المقدس الأبرز فى حياة المصريين هو «الموت»، أمامه يلتفون ويجتمعون، وبإزائه يخشعون ويعتبرون، واكتشفت أن الموت صار هو الجامع المانع لكل المصريين، فى العزاء يتاح للجميع أن يلتقوا ويجتمعوا. فى عزاء ثروت عكاشة لم يتوقف المعزون عن الكلام، حتى والمقرئ يقرأ القرآن الكريم، وهذا ما دفع أحد المشرفين على العزاء لأن ينادى فى الميكروفون مرتين: «وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تُرحمون»، ومع ذلك لم تكن الأحاديث تهدأ إلا قليلا، كى تعود ثانية، ويرتفع الصوت ليصبح طنينا، وكأننا فى حفل عام.
بدا لى أن المصريين أو نخبتهم يفتقدون أن يتحدثوا معا، فى العام الأخير ومنذ 11 فبراير 2011، الكل يتحدث وبصوت مرتفع، لكن كلا منا يتحدث مع نفسه وإلى نفسه فى المقام الأول، ولذا نجد ضجيجا شديدا أو أصواتا متداخلة ومتباينة، وطوال الوقت كل يريد أن يكون صوته أحاديا، لا مكان ولا مبرر لصوت آخر، وكذا نبرات حادة وعالية.. صراخ وانفعال، ليس هناك حوار حقيقى ولا جدل يثرى حياتنا، ويبدو أننا بحاجة لأن ندرك أن هناك وطنا واحدا يجمعنا، وبهذا المعنى يجب أن تكون هناك نقاط التقاء، وهذا يتحقق بالحوار والجدل، وربما لم يعد متاحا لنا سوى العزاء يلتقى فيه الجميع.. صحيح أنه فى عزاء د.ثروت غلبت الشللية، بمعنى أن كل مجموعة أو «شلة» جلست معا، لكن هذا لم يمنع من تبادل الابتسامات والتحايا بين الجميع، حتى لو كانت القلوب متعبة والنفوس متكدرة، فكل فريق ومجموعة لديها الوجع الخاص بها من الآخرين.. لذا كانت الابتسامات والتحايا تبدأ حذرة، فيها ترقب وخوف، وربما فيها الاستكشاف، لذا فإن بعض الابتسامات أعقبها اندفاع للمصافحة، وأحيانا تبادل الأحضان والقبلات أو تبويس الأكتاف، وكلٌ يريد أن يلقى برأسه على كتف الآخر.
طوال السنوات الماضية مزّق كل طرف الآخر، وفى الشهور الأخيرة ازداد معدل الطعن والتمزيق، لم يسلم أحد من تجريح وتشويه، بالحق أو بالباطل، واعتدنا ذلك.. وكان العزاء كاشفا لهذه الحالة وللوجع الإنسانى الذى يلف الجميع.. بالتأكيد لا أتمنى وقوع حادث وفاة كل يوم فى عزيز لدينا، حتى يلتقى الفرقاء ويجلسوا معا.
لكن المشهد يكشف أن الموت وحده هو الذى بات يجمعنا وأن سرادق العزاء أو دار المناسبات هى المكان الذى يمكن أن يجلس فيه الجميع، ويتقبل كل فصيل الآخر، ويرتضى الفرد أن يجلس فيه مع خصمه، لبعض الوقت، وأن يبادله الحديث والمصافحة.
تمنيت لو أن د.أحمد عكاشة ترك مدخل القاعة، حيث كان مضطرا للوقوف كى يستقبل المعزين، وتحرك بضع خطوات ليرى المشهد فى الداخل، ويتأمل الجلوس جميعا، بالتأكيد كان سيقول لنا الكثير والكثير، بخبرته العميقة فى الطب النفسى وتحليل الشخصية الإنسانية عموما، والمصرية تحديدا.
أضاف د.ثروت عكاشة الكثير إلينا فى حياته، سواء من إنجازات ثقافية وفنية عامة، أو إنجازه الفكرى والإبداعى، لكنه فى وفاته كشف لنا كم نحن متعبون ومرهقون وأننا ممزقون إنسانيا، وآن الأوان لأن نتجاوز هذه الحالة لنبنى وطنا ناهضا وقويا.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة