كنت فى إحدى العواصم العربية عندما حدثت لى مشكلة لا أذكرها الآن، وأعرف أن القارئ يستريب فى الكاتب خاصة فى هذه الأيام، ولذلك لن تصدق أننى نسيت المشكلة، ولعلك الآن مثل كولومبو تبحث عن السر الغامض الذى أخفيه، وأظنك ستخرج من التحقيق خائباً فما نسيت إلا لأن الذاكرة بدأت تتآكل مثلما تآكلت سنوات العمر أو أحلام الرخاء وإنجازات الثورة، المهم أننى فى هذه الأزمة، وجدت أن صديقاً من هذا البلد تطوع أن يذهب معى إلى الدائرة الرسمية، وما أدراك ما الدائرة الرسمية.
كان المشوار بالطبع ثقيلا على قلبى فأنا أكره الأماكن الحكومية، بدءاً من أقسام الشرطة انتهاء بالجوازات، وفى حياتى كلها لم أدخل قسما للشرطة، وأنا آمن إلا فى ميلانو، نعم فى ميلانو! كانت قريبة لى تريد الذهاب للشكوى من سرقة حقيبة يدها وفيها أموال وصور عائلية و.. و.. وكان سبب اطمئنانى أننى فى بلد أوروبى، صحيح أننى اكتشفت بعد ذلك أن إيطاليا دولة من العالم الأول وإن كان شعبها من العالم الثالث، لكننى كنت تحت مظلة الاتحاد الأوروبى، حيث يوقفك الشرطى فى أى مكان مبتسماً ومقدما لك بطاقته الشخصية - رغم أنه يلبس الزى الرسمى - ويقول لك اسمه ثم يطلب منك أوراقك التى تدل على شخصيتك، وعندما ينتهى وإذا لم تكن مطلوباً أو ارتكبت جريمة، يعيد لك الأوراق مبتسماً ويعتذر لك عن تأخيرك، ويتمنى لك يوماً جميلاً، طبعاً، ليس هذا من قصص ألف ليلة الأوروبية، بل كما رأيته بعينى، وكنت مطمئنا أيضاً لدخول القسم الإيطالى لأن السفير المصرى آنئذ كان زميلاً لى فى الجامعة، ووعد بأن يرسل إلىّ فى القسم من يساعدنى، وتلاحظ من هذا أننا لابد أن نلجأ إلى من يتوسط لنا فى كل مكان حتى لو كان تحت راية الاتحاد الأوروبى.
وجاءت الشرطية التى ستترجم لنا، فلم نستطع النطق، فلأول مرة نرى رؤية العين ملكة جمال العالم، وعندما أفقت من الصدمة قلت لها: هل من المعقول أن مثلك تعمل فى وظيفة وكيل عريف، أمباشى! تعالى إلى مصر المحروسة، تعالى عندنا لتصبحى نجمة سينمائية تنافس يسرا وليلى علوى وإلهام شاهين و.. وضحكت الأمباشى الجميلة واعتذرت عن العرض!
أعود إلى البلد العربى الذى أحدثك عنه، اكتشفت ونحن سائران إلى الدائرة الرسمية أن صديقى غير مرتاح لهذا المشوار، فزاد همى وقلقى.
ودخلنا إلى بهو كبير ملىء بالمكاتب، وفجأة تهلل وجه صديقى لأول مرة فى هذا اليوم، وجذبنى إلى مكتب اختاره، أدركت أنه رأى صديقاً له، وهكذا اقترب حل المشكلة.
تحدث صديقى إليه لكنه سمع لنا ببرود، ونظر إلينا فى سخط، وقال فى ملل إننا أخطأنا الطريق إليه، وأنه ليس مختصا بهذا الموضوع، وفى وسط حالة السخافة التى كان فيها، تهلل وجهه فجأة، وارتسمت على وجهه ابتسامة أكبر من الوجه وقال فى مودة: الموضوع بسيط جدا وسيحل فوراًَ!
ظننت أنها بصة الكاميرا الخفية! وتذكرت آنئذ أيضاً ما كان يتردد من أن الماسونية تسيطر على هذا البلد، وربما عرف صديقى نفسه له بالحركات السرية التى قالوا عنها أيضاً، وإلا فلماذا انقلب الموظف من كاره لنا إلى محب؟
استبعدت أن صديقى ماسونى ذلك لأنه يهاجم الماسونية فى كل لحظة، وليس هذا من عادات أصحاب العقائد أو حتى المصالح.
كنت متلهفاً أشد التلهف على معرفة ما الذى غيّر الموظف، وظل صديقى يؤجل الرد حتى خرجنا فقال لى: عندما دخلت ألقيت نظرة لأتعرف على أحد أعرفه، نحن بلد صغير، لذلك لابد أن أجد قريباً، أو صديقاً أوزميل دراسة أو جاراً، ولكنى لم أجد أحداً، لم أيأس، نظرت إلى الموظفين وكان صاحبنا فى مجال الرؤية فرأيت «الدبلة» فى يده، فقلت يا مسهل!
ظننت أن المتزوجين عندهم فى منظمة سرية واحدة، ضحك صديقى من الفكرة، وقال: عندما رأيت «الدبلة» كانت من الفضة، فهو بالتالى من السلفيين، ولحسن الحظ أننى ألبس «دبلة» تبدو فضية، لكنها من البلاتين، وهى تنفع فى مثل هذه المواقف، والحمد لله أنهينا المشكلة بالدبلة!
تذكرت هذا الحادث الذى يعلمنا الحكمة، وتعلمت منه أنه علينا أن نتسلح برموز القوى التى تسيطر على المجتمع إذا كانت تضع فى إصبعها «دبلة» فضة، علينا جميعا أن نلبس «دبل» فضة!
وبعيداً عن التفلسف فكرت أننى سأدخل إلى قسم شرطة ذات يوم، أنت لا تذهب إليه باختيارك.
صحيح أننى قاطعت المؤسسات الحكومية خاصة مؤسسات وزارة الداخلية منذ نحو عشر سنوات، وما أضطر له أستخدم فيه التدليل لو أمكننى ذلك، ولكن ليس كل ما يكره المرء يستطيع تجنبه، فرغم أننى مواطن صالح، فإننى أواجه بقضايا وصراعات غير متوقعة، قال صديق لى: لابد من أقسام الشرطة وإن طال الطريق!
والحكيم من يتدبر الأمور، وأنا أسعى لأن أكون حكيما لذلك قررت أن أتدبر الأمور.
طبعاً فكرت فى الدبلة الفضية التى حلت المشكلة من قبل، وأستبعدتها فالأمور أصبحت أكثر تعقيداً.
سأدخل «القسم» لا سمح الله، فأجد أمامى عساكر ملتحين، وضباطا ملتحين سينظرون إلى وجهى بسخط فهو يخلو من اللحية الشريفة، وبالتالى قد تكون التخشيبة مصيرى.
لذلك قررت أن أضيف إلى وجهى لحية جليلة، إلى جانب ما أضافه الزمن، ونحن عندما نقرر شيئا نصنعه والحمد لله على أعلى مستوى، لذلك ستكون لحيتى - بمشيئة البارى - أكبر من لحية محمد على باشا أو الشيخ الشرقاوى، أو الشيخ المهدى، بل من أى لحية كانت فى العصر الذهبى عندما كنا نأكل الجراد ونتلذذ به فهو من أرقى أنواع البروتين، ونقضى حاجتنا فى الخلاء بحرية كبيرة فنحن الذين اخترعنا الحرية، ولم نكن نملك شرور العالم الحديث من راديوهات وتليفزيونات، وقبل أن تنطلق الأغانى والموسيقى مطاردة لنا حتى فى الشوارع.
عقدت جلسة مع «القبيلة» وعرضت عليهم فكرتى: سأطلق لحية تصل إلى أسفل صدى، وليكن ما يكون، لاحظت أنهم وافقوا بسرعة، فلما ناقشت الفكرة فلتت منهم تعبيرات ساخرة، وقالت إحداهن بحماس: إذا كنت تريد إطلاق لحيتك فنحن جميعاً معك ولو كان بقدرتى سأطلق لحيتى!
غضبت وصرخت فيهم أننى لم أجمعهم ليقولوا نعم أو لا، إنما ليختاروا لى شكل اللحية.
زمان.. زمان جداً كان حجم اللحية بقدر صاحبها، فمثلاً إذا كان لديك عشرة من العبيد، لم يكن من حق أحدهم أن تكون لحيته أكبر من لحيتك، فالناس مقاسات، ولو فعلها أحد من العبيد فمن حقك أن «تصدر» عليه حكماً بالإعدام، وأن تنفذه كما تريد بالسيف أو السم أو السكين أو الخنق، والآن من الممكن إطلاق الرصاص عليه.
وزمان.. زمان جداً لو كان لديك رئيس للخراف والماعز، وهو من كان يسمى أحياناً بالراعى وجعل لحيته أكبر من لحيتك تستطيع أن تذبحه فوراً ذبح الخراف.
لذلك فلحيتى ستكون أكبر من لحية أى أحد فى هذا البيت.
ويقول المؤرخون إن الرجال جميعاً كانوا ملتحين إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وعندما جاء الإسكندر لاحظ أن البعض فى الحروب يشدون لحى العسكر فى الجانب الآخر، مما يسبب لهم آلاماً هائلة، وفكر الإسكندر فى أن يأمر جنوده بحلاقة لحاهم، وهكذا أصبح لديه وضع استراتيجى جديد، لم يلتفت إليه خبراء الاستراتيجية الذين كثروا فى هذه الأيام.
ومن الذين تحدثوا عن اللحى وكيف حلقها الإسكندر، المؤرخ الأمريكى ول ديوراند فى موسوعته الشهيرة «قصة الحضارة»، ويقول إن أعظم ما أنجزه الإسكندر هو حلق اللحى.
وأظن أنه يغمز إنجازاته الأخرى فى محاولة خلق عالم واحد تسوده الثقافة الهلينية والديمقراطية الإثنية.
فكروا معى: هل صحيح أن حلق اللحى أعظم إنجازات الإسكندر طيب، وتحريم حلق اللحى وإعادة ما كان إلى ما كان عليه.. أليس هو أيضاً إنجازاً عظيماً؟
أجهز نفسى لأذهب إلى الحلاق.. فإذا سألنى «دقن ولاّ شعر» سأصرخ فيه: شعر يا كافر، ولا تقترب من الذقن.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب مصدر السلطات
اظرف مقال قرأته منذ الثوره - اقترح تشكيل اللحيه على شكل نجمه او سيف ليسهل التمييز
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
يحيي رسلان
اتعجب لكهل مثلك كيف سيلقي ربه
التعليق فوق
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب مصدر السلطات
تصور النتيجه كانت ح تتغير تماما لو ان المخلوع اطلق لحيته منذ توليه العرش
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد
معاد المقال جه ولازم تكتب حاجة
عدد الردود 0
بواسطة:
أكره العلمانيين
أتسخر من سلفنا الصالح وقضاء حاجتهم فى الخلاء
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الرحمن
اللهم انا نسألك حسن الخاتمة
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الحق صالح
لا لحى الله اللحى
عدد الردود 0
بواسطة:
ياسر ابو العطا
الى رقم 1
عدد الردود 0
بواسطة:
ahmad mohamed
ليس بعد الاصرار من توبه!!!!!!!!!!
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود
إلى ديان يوم الدين نمضي ******* وعند الله تجتمع الخصوم