«مات اليومَ رجلٌ صالحٌ، فقوموا وصلّوا على أخيكم». هكذا قال الرسول «صلى الله عليه وسلم» حين مات أصحمة النجاشى، ملك الحبشة، الكريمُ العادلُ الذى لا يُظلم عنده أحدٌ. وكان على دين المسيحية، على أنه أكرمَ وفدَ المسلمين الذين هاجروا إليه فرارًا من عنت قريش مع أتباع الدين الجديد. واليومَ كأنى بالتاريخ يقول: رحلَ اليومَ فى مصرَ رجلٌ صالح، فادعوا اللهَ أن يرزقها بمثله. الله يُعزّى مصرَ وشعبَها فى فقدان رجل استثنائىّ فى الوطنية والحكمة، قداسة البابا شنودة. امتلكَ ناصية اللغة والأدب، فكان شاعرًا مبدعًا، فيلسوفًا وكاتبَ مقال رفيعَ المستوى. وامتلك ناصية الوطنية، فكان نِعم المصرىّ الشريف الذى أحب بلاده وتحمّل الكثيرَ من أجل استقرارها ووحدة صفّها. وامتلك ناصية الرحمة والمحبة، فكان نِعم الأب المُعزّى لأبنائه. وامتلك ناصيةَ الحكمة والسياسة، فعرف دائمًا كيف يحوّل أحزان الأقباط لمزيد من المحبة لإخوانهم، وحتى للمسيئين منهم. وامتلك ناصية التنسّك والتقشّف، فاعتكف فى الدير سنوات لا يبرحه، ليحيا للصلاة والتأمل. مردّدًا قولته الشهيرة: «لا أريد شيئًا من هذا العالم، لأن العالمَ أفقرُ من أن يعطينى شيئًا». عاش بهدوء ورحل بهدوء كما يليق برجل دين صالح، حمل حبَّ الله فى قلبه، فأحب كلَّ خلق الله. تمامًا مثلما كان يعظ أبناءه بهدوء، لا يخلو من خفّة ظِلٍّ وسرعة خاطر فى الرد على تساؤلات الناس ومشاكلهم، وامتصاص همومهم تلك التى عرف دائمًا كيف يُبسّطها أمامهم، مُحوّلاً أنظارهم نحو السماء التى فيها العدل والرحمة والعزاء عمّا يلاقى المظلومُ على الأرض من ظلم الإنسان للإنسان.
ترفّع دائمًا عن الصغارات والدنايا. فلم يغضب يومًا مما يُقال فى حقّه من سخافات. وكان يمنع شعبه من الغضب لأبيهم الروحى ورمزهم الدينىّ. حتى حين كان ينفجرُ الأمرُ فى إحراق كنيسة أو قتل مسيحيين كان يردد على مسامع شعبه قولته: «كلّه للخير، مسيرها تنتهى، ربنا موجود». ثم يُصلىّ للمسيئين طالبًا من الله ألا يُقيم عليهم خطاياهم لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون. فمَن عساه يقول اليومَ لأقباط مصر: «اغفروا»، فيحوّل الأحزانَ إلى محبة وتسامح ورقى؟!
رفض التطبيع مع إسرائيل، ومنع شعبَه من زيارة القدس قائلاً: «لن ندخل القدسَ إلا مع إخواننا المسلمين بعد تحريرها». حملَ مصرَ فى قلبه لأنه أجاد قراءتها بعمق خلال دراسته تاريخَ مصرَ الفرعونىّ والقبطىّ والإسلامىّ، ثم التاريخ الحديث. وكان يحثُّ أبناءه على دراسة التاريخ قائلاً: إن المعرفة والإيمان والعلم لا تكتمل بغير الخبرة. والخبرةُ لا تتكوّن من تجارب الإنسان وحسب، بل عبر الاستفادة من تجارب الآخرين. وهو ما يحدث بتأمل التاريخ بما يحمل من خبرات السالفين، مردّدًا البيت الشعرى: «مَن وعى التاريخَ فى صدره أضافَ أعمارًا إلى عمره».
عمل دائمًا على بناء كنائسَ قبطية للمصريين المسيحيين فى المهجر، حتى لا تذوبَ هُويتهم المصريةُ القبطية فى هويات مهاجرهم التى يحيون بينها. فكأنما بهذا يمدُّ خيوطَ المواطَنة بين أبنائه وبين وطنهم مصر، فلا يبرحونها مهما طالت تلك الخيوط وتشعّبت وتشتتت فى أرجاء الأرض.
أقول لأشقائى أقباط مصر: قلوبنا معكم فى خسارتكم وخسارة مصر، وأستعيرُ من كتابكم ما يُريح قلوبكم: «طوبَى للحزانى لأنهم يتعزّون».
فى أكتوبر الماضى قال البابا شنودة: «إن كانت أمريكا ستحمى الكنائس فى مصرَ، فليَمُت الأقباطُ وتحيا مصر». ولأننى لم أشرُف يومًا بلقائه أقولُ له اليومَ فى رحلته للأبدية: يا قداسة البابا، إن مصر، بعد الله، هى التى ستحمى كنائسَها كما تحمى مساجدها وهياكلها. مصرُ وشرفاءُ مصرَ سيحمونها، أولئك الذين لم يفرِّق بينهم شيطانٌ ولا مُغرِض طوال 5000 عام. فنَمْ مستريحًا، وانعمْ بفردوس السماء، لأنك أهلٌ لذلك. رزقنا اللهُ برجل فى حكمتك، ينجح فى وأد الفتن قبل اشتعالها. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.