هل لا تستقيم الحياة فى بلدنا مصر إلا بتحكيم الأصوليات والرجوع إلى حالة الانقسامات البشرية الأولى، والتمييز بين أهل المكان الواحد طبقا للعرق أو النوع أو اللون أو المعتقد..؟.
أقول هذا بمناسبة الحمأة التى أصبحت مسيطرة على وجدان البعض فى مصر، من حيث ضرورة تغليب الأصولية الإسلامية على مجمل سلوك المصريين وتصرفاتهم وعلاقاتهم، خاصة بعد استحواذ الإسلاميين على السلطة التشريعية وتطلعهم للإمساك بالسلطة التنفيذية «الحكومة»، وتأييدهم مرشحاً لرئاسة الدولة ذا «خلفية إسلامية» على حد تصريحاتهم فيصبح المجتمع تحت إمرتهم.
إن هذا الخطاب دفع بعض غلاة الأقباط إلى الاحتكام إلى الأصولية المسيحية واستعادة شعار «الأمة القبطية» الذى ساد خلال أربعينيات القرن الماضى فى مواجهة اشتداد نشاط جماعة البنا. وأما الجديد فى عالم الأصوليات فهو ما يعرف بالأصولية الفرعونية ويدعو أصحابها إلى اتخاذ التقويم الفرعونى أساسا، وإحياء اللغة المصرية القديمة، وإخراج مصر من الجامعة العربية، واستعادة كل قيم وثقافة المصريين القدماء بصرف النظر عن أى تحولات حدثت للمصريين على مدى الزمن. وفى هذا الخضم من بحيرة الأصوليات تسبح أصوليات أخرى عند الشيعة المصريين والبهائيين والله أعلم بما تخبئه الأيام من مفاجآت أصولية.
ووجه الغرابة فى هذه القضية أن الذين يدعون إلى تلك الأصوليات لا يعرفون أنهم بهذا ينسحبون من الزمن الذى يعيشون فيه، ولا يعملون على مواجهة مشكلاتهم المعاصرة بحلول من واقع سياق وظروف كل مشكلة وليس من واقع التاريخ، حيث لا تتماثل التجارب ولا تتشابه، ولو كانت تتماثل أو تتشابه لما وجدت البشرية أى معضلة عند مواجهة المشكلات. وتزداد حدة المشكلة حين نعلم أن كل أصولية عزيزة لدى أصحابها، وهيهات أن تخرجها من نفوسهم أو تزعزع مكانتها.
والأكثر غرابة أن الذين لا يدعون إلى الاحتكام لأصوليات دينية- مذهبية لحل مشكلات المجتمع فى السياسة والاقتصاد يبحثون عن أصوليات أخرى وضعية، فمثلا هناك من يقول: لماذا لا نأخذ بتجربة مهاتير محمد فى ماليزيا، أو بتجربة اليابان التى تم تدميرها فى نهاية الحرب العالمية الثانية وأصبحت عملاقة وكذا الصين..إلخ، بل من الشائع أن بعض الذين تعلموا فى جامعات أوروبية وأمريكية وتولوا مناصب تنفيذية يواجهون مشكلات المكان المسؤولين عنه بعبارة أثيرة يقولونها: عندما كنت فى فرنسا أو إنجلترا وجدت الناس هناك يفعلون كذا وكذا.. فلماذا لا نأخذ بتجربتهم.. هكذا ببساطة ودون وعى باختلاف الظروف وطبائع البشر، وكأنه قد كتب علينا ألا نفكر تفكيرا مستقلا وأن ننقل الحلول التى ثبت نجاحها فى بلادها، مع أن أصحاب هذه النماذج الجاهزة لم ينقلوها من مجتمعات أخرى، وهذا هو الفرق بين المنهج وبين النظرية.. فالبدلة على المانيكان فى فاترينة العرض بمحلات الملابس الجاهزة تبدو جميلة وآخر شياكة، لكن ليس شرطا أن تكون كذلك على جسم المشترى الذى قد يدفع بها إلى ترزى لتقصير الأكمام أو البنطلون..إلخ، وهو يفعل ذلك مضطرا لأن البدلة الجاهزة أرخص من التفصيل على المقاس. وهكذا نفعل نحن فى مواجهة مشكلاتنا بالرجوع إلى أصوليات جاهزة نجحت فى مواجهة مشكلات زمانها لكن ليس بالضرورة أن تنجح فى مجتمعات أخرى غير التى صيغت فيها، فضلا عن أنها تمثل قيدا حديديا على حرية الإبداع والتصرف حسب مقتضى الحال. على أن هذه الحالة من النقل دون إعمال العقل أنشأت بدورها مقولة «الأصالة والمعاصرة» أى الأخذ عن الغير بما لا يتعارض مع الأصول، فأصبحت «الأصالة» عنوانا للإيمان، وأصبحت «المعاصرة» عنوانا للمروق والعصيان.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محي
عوده الكهنوتيه بقال الله ورسوله وهم وسزاجه
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد محمود القاضي
أختلف معك في أمر واحد