بعض الذين يعرفون المناضل محجوب عمر وقرأوا نعيه فى الصحف، لابد أنهم دهشوا عندما عرفوا أن اسمه بالمصرى هو رؤوف نظمى ميخائيل، ولابد أنهم احتاروا أمام دلالات الاسمين.
وبعض الذى يعرفون الدكتور رؤوف نظمى لابد أنهم دهشوا عندما عرفوا أن جميع الناس كانوا ينادونه باسم محجوب عمر، وأغلب الذين يعرفون «الحكيم» لا يدهشهم هذا فلقد كان محجوب عمر أو رؤوف نظمى قديساً من نوع خاص، يقبله الجميع بنورانيته لا يرون فيه ما يسألون عنه، بقدر ما يسمعون منه.
أعرف محجوب عمر منذ نحو خمسين عاماً، أحياناً كنا نلتقى كل يوم، وأحياناً كنا نلتقى كل سنوات، ولكنه دائماً لم يكن يريد شيئاً من أحد، بل كان جاهزاً دائماً لأن يعطى، وغيره فى حالته الصحية أحياناً كان لا يستطيع العطاء أو حتى الأخذ، لكن محجوب عمر لم يكن عاجزاً أبداً عن العطاء.
لا أدرى متى تقابلنا لأول مرة، فى غالب الأمر كان ذلك فى أيام الدراسة، وأظن أن من جمعنا كان الكاتب الصحفى الراحل فيليب جلاب، وكنا جمعياً فى مرحلة الدراسة، كان محجوب فى كلية الطب، وفيليب فى آداب عين شمس، وكنت فى آداب القاهرة.
وأحب أن أضيف إلى الأسماء التى ذكرتها اسماً آخر هو إسماعيل عبدالحكم الذى رحل منذ أعوام وهو ناشر شهير.
أضيف اسمه رغم أنه لم يكن فى تلك اللقاءات العابرة فى البدايات، ولكن ما حدث بعد ذلك بدا قصة تروى.
دخل محجوب - وكان اسمه آنئذ رؤوف - وإسماعيل، معتقل الواحات، وكان إسماعيل زميلاً لى، وإن كان فى قسم آخر هو «الوثائق والمكتبات»، وسقط إسماعيل مريضاً وهو فى الاعتقال، يحدث هذا كثيراً، ولكن حالته ازدادت سوءاً حتى عرفنا بعد ذلك أن وزنه نقص إلى النصف، وكان تشخيص طبيب المعتقل غير صحيح لأن الحالة تسوء، وعندئذ تقدم محجوب بتشخيص قالوا عنه إنه «جنونى»، وبدا أن نهاية إسماعيل قد اقتربت، فلانت إدارة السجن، فهم لا يريدون قتلى فى المعتقل، تتردد أسماؤهم فى وسائل الإعلام العالمية.
وانتهوا إلى إرسال إسماعيل إلى مستشفى قصر العينى بصحبة المعتقل محجوب، لأنه يملك التشخيص «الجنونى»، ولا أحد غيره يستطيع تحمل مسؤوليته، وشرح محجوب الحالة النادرة، وطريقة العلاج لأساتذته الذين تخرج على أيديهم بعد سنوات.
ونجا إسماعيل عبدالحكم من الموت، ولكن أية نجاة؟ لقد أخرجوه من المستشفى ليبقى فى البيت عاماً كاملاً، قال لى إسماعيل إن أسوأ اللحظات كانت لحظات غروب الشمس، فالبيت الذى انتقلوا إليه فى الحلمية الجديدة، حيث كنا جيرانا، كان يطل على مزارع والمنظر فاتن.
لكنه الوقت الذى يهدأ فيه البيت ويظهر شبح الموت، حتى الأصدقاء والأقارب يأتون مساء وربما أتى بعضهم صباحاً، لكن الجميع تركوا الغروب يفترس إسماعيل، لذلك عاش بقية عمره يبحث عن الشارع المزدحم ساعة الغروب.
وبعد 1964 تخرج محجوب عمر وأصبح طبيباً فى أحد مستشفيات الدقهلية، وأصبحت حكاياته طقساً للشلة.. قرر رفض تسلم المواد الغذائية التى قدمها مقاول راش يتعامل عادة مع مدير مرتش، وكان معنى هذا أن يموت المرضى جوعاً.
محجوب عرف أن هناك أطعمة جافة فى المخزن لمثل هذه الحالات طلب هذه الأطعمة، المسؤول فى إجازة! كون لجنة وكسر الباب، قامت التحقيقات، لكنها انتهت على لا شىء.
تواضعت أحلامه الصحية فطلب نظافة المستشفى، ويبدو أن ذلك كان صعباً جداً، وأنه لم يكن يهم غيره، وانتهى الأمر بأنه أتى بأدوات نظافة وبدأ ينظف المستشفى، وقامت الدنيا، كيف أن طبيباً يأتى بجردل وصابون وماء ويمسح الأرض؟!
حتى نقابة الأطباء ثارت لكرامتها وكرامة الأطباء، أما وزير الصحة فلقد أحاله إلى المعاش! واستمر المستشفى فى قذارته.
وانضم محجوب إلى المقاومة الفلسطينية، وعرفنا أن علاقته كانت وثيقة بياسر عرفات وخليل الوزير، وحاول الأستاذ فهى هويدى الذى كان من القلائل الذين كتبوا عنه بعد رحيله، نفى شيوعيته التى دخل بها المعتقل، واستعان بما قاله له عبد القادر ياسين.
ونحن الذين نعرف محجوب عمر منذ أن كان طالباً، نعرف أنه كان رجلا ذا فكر تقدمى، وحتى النهاية لم يكن يرفع شعارات زاعقة، ولا يلجأ إلى نصوص جامدة.
بالطبع تغير محجوب عمر عما كان فى الخمسينيات أو حتى الستينيات، فلقد تأكد أن التجربة كانت مخالفة للنظرية، وأن النظرية والدولة سقطتا بسقوط الاتحاد السوفيتى فى حادث من أهم وأغرب حوادث التاريخ.
وتجربة محجوب عمر فى المقاومة الفلسطينية لم تكتب، وتجاربه كلها لم تكتب، ولكنه كتب عن معركة «الأشرفية» كتاباً أقرب إلى الرواية، كان محجوب طبيباً مع المقاومة، ثم انقلبت السلطة الأردنية على المقاومة، ودخلت فى حرب شرسة ضدها فيما سمى بأيلول الأسود، وأوقف جمال عبدالناصر هذه الحرب فى مؤتمر فى القاهرة مات فى نهايته، وأسر محجوب مع مجموعة من الفلسطينيين، وكان التالى معروفاً، أوقفوهم فى صف واحد، وأصدر القائد أمراً بإطلاق الرصاص عليهم، وعندئذ صاحت فتاة إنه الحكيم عمر الذى عالجهم وتوقف إطلاق النار.
كتب محجوب «الأشرفية» فى كتاب صغير هو من أجمل وأصدق ما قرأت، وبعدها حاولت أن أقنعه بكتابة الرواية ولم يرفض، كان محجوب نهراً يسير كما يريد.
والحياة كالدراما أو العكس، فالتقى محجوب عمر مع إسماعيل عبدالحكم فى بيروت بعد أن خرجت المقاومة الفلسطينية إليها. وأنشأ إسماعيل مع منظمة التحرير، وبمساعدة محجوب، أهم دار نشر للأطفال بالعربية «دار الفتى العربى» واستمر لقاء محجوب وإسماعيل بعد ذلك.
وفيما بعد، كان لإسماعيل مكتب فى شارع قصر العينى، قال لى مشيراً إلى مكتب: هذا مكتب محجوب.
ومرات كنا نلتقى فى هذه الشقة، ونستغرق فى أحاديث شديدة التنوع، وعندما كان يقطع الحديث تليفون أو جرس الباب، كان إسماعيل يقسم بأنه سيقطع الكهرباء عن الشقة، وأظن أننا لو كنا سجلنا الأحاديث التى ملأت هذه الأوقات، لعرف الجميع لماذا كان محجوب عمر يسمى بالحكيم.
عاش نصف عمره يعانى من آلام بشعة، لكنه لا يشكو، بل يتهرب من العلاج، ومع ذلك قدم ما يقدر عليه لمصر وللعرب.
وافته المنية بعد عمر حافل من أجل القضية الفلسطينية.. كان عضوا بالمجلس العسكرى لحركة فتح.. محمود عباس قلده وسام القدس تقديراً لجهوده ونضاله المشرف.
كتب أرنست همنجواى عن جيله «الجيل الضائع» وأعتقد أن جيل محجوب عمر هو الجيل المضيع، هذا الجيل العظيم الذى كان مؤهلاً لأن يقدم لمصر أعظم الأشياء، فوضعوه فى السجون، وحرموه من كل الفرص، هذا الجيل الذى رأى أن القضية الفلسطينية هى قضيته، أذكر منهم رغم قصور الذاكرة سعد زغلول فؤاد الذى شارك فى المقاومة الفلسطينية سواء فى الميدان أو فى بلاد أوروبية، ومصطفى الحسينى الذى كان قائداً لوحدة فلسطينية فى يوم من الأيام، وفاروق القاضى الذى يعيش الآن فى الأردن، هؤلاء وغيرهم شاركوا فى المقاومة الفلسطينية وقبل ذلك وبعد ذلك احترقوا من أجل مصر.
كان جيفار طبيباً اختار الثورة.
وكان محجوب عمر طبيباً اختار الثورة.
نحنى رؤوسنا إجلالاً لهذا.. ولهذا.. ولهؤلاء.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
أيــــــــــــــــــــوب
صدقت الــول ياأستاذ محفوظ .. ولكن
عدد الردود 0
بواسطة:
يحيي
الباشا حيتغدي امتي