كان الإنسانُ الأول يرهبُ الطبيعةَ ويفزعُ من شراستها، فصنع مأوى من جذوع الشجر؛ ربما كنوعٍ من الانتقام الإيجابىّ، بأن يحاربَ الطبيعةَ بأحد بنيها، ثم حفر لنفسه كهفًا فى بطن الجبل، فرارًا من الضوارى والكواسر، ثم رسم على جدران الكهف صور تلك الضوارى، لكى يرقد فى ليله يتأملها فى رسومها، فيتقوّى بها، عليها! الفرارُ من الخطر يجعل المرءَ فى حال من الخوف دائمة، بينما لا يتمُّ دحر الخطر إلا باستحضاره أمام ناظرينا، حتى تخلق ذاكرتُنا البصريةُ علاقةً جدلية دائمة معه، ومن ثَم يُستأنَسُ الخطرُ ويضؤل شيئًا فشيئًا، حتى يتلاشى، فننتصر عليه، لهذا انتشرت فى العصر الحديث نظرياتٌ حول علاج أمراض النفس عن طريق الرسم، يضعُ المحلِّلُ النفسىّ بعض أوراق ومجموعة من الألوان أمام المريض، ويطلب إليه أن يرسم ما يجول فى خاطره، وعادة ما يرسم المريضُ مخاوفَه وهواجسه، فإن كان يعانى الوحدةَ، رسمها مجسّدةً فى إنسان منبوذ متروك جانبًا، أو ورقة شجر صفراء أسقطتها الشجرةُ الوارفةُ بأخضرها، وإن كان مغدورًا من حبيبة، رسم أفعى برأس امرأة، وإنْ امرأة تقاسى بطشًا ذكوريّا، تذكّرت قولة نيتشه: «لا تذهبْ إلى امرأة إلا والسوطُ معك!» فترسمُ سوطًا أو مشنقة أو أنيابًا بارزة، وهلم جرا، الأمرُ على هذا النحو الرمزىّ، لا يعنى أن إعمالا للعقل يتمُّ فى ذهن المريض، فيخلق، بوعىٍ، رموزًا لما يقلقه، لأنه لو كان يعرف هواجسه، لهزمها، وانتفى دور الطبيب، لكن الشاهد أن العقل البشرى مبرمجٌ آليًا، ولا إرادياًّ، على العمل بشكل رمزىّ ومجازى، كما يؤكد كتاب «المجازات التى بها نحيا»، Metaphors We Live By، الذى ألّفه أستاذان أمريكيان فى علم النفس واللسانيات هما: جورج لاكوف، ومارك جونسون، يؤكد الكتابُ أن المخَّ البشرى غير قادر على العمل دون الاتكاء على الرمز والمجاز، فإن تكلم الإنسانُ عن حوار جدلىّ بينه وبين آخر، استخدم تعابيرَ من قبيل: لقد انتصرتُ عليه - هزمته فى الجدال وحصدتُ ثلاث نقاط - دحرتُه وقضيتُ عليه - ضربته فى مقتل وكسبتُ أرضًا جديدة، إلخ، التحدى الأكبر الذى يواجه الطبيبَ النفسىَّ مع مريضه، هو التشخيص، فعادة لا يعرفُ المريضُ أسبابَ معاناته، هو مكتئبٌ، رافضٌ العالم، غير متكيّف مع الواقع، فاشلٌ اجتماعيًا، والسلام، والسبب مجهول، والعلاج لا يتم إلا بإخراج «داخل» المريض، وطرحه على الطاولة، تمامًا كما يحملُ الصندوقُ الأسود أسرارَ الطائرة قبيل سقوطها، الرسم يُخرج مكنونَ «الصندوق الأسود» البشرىّ أمام الطبيب، وبالأساس، أمام المريض ذاته، فيعرف نفسَه، ويُشفى! وهى المهمة الشاقة التى طلبها سقراط منّا: «اِعرف نفسك»! قالها وهو يعلم أن مطلبه عسيرٌ يقاربُ المُحال، لو أنجزناه، شُفينا، الحكاية هى تحويل أشياء هيولية غير مادية ولا محسوسة، مثل: الحزن والقنوط والاكتئاب والشعور باللاجدوى إلخ، إلى أشياء مادية ملموسة مثل الورق واللون والتشكيل والتجسيد، فيسهل التعامل معها بالحواس الإنسانية كالبصر واللمس والتأمل، فنقبض عليها، نروّضها، نهذِّبها، نعالجُها، أو نقتلها، فننجو، لهذا قال بابلو بيكاسو: «الفنُّ هو الأكاذيبُ التى تجعلنا ندرك الحقيقة» كذلك قال فان جوخ: «بالرغم من كل شىء، سوف أنهض من جديد.. ألتقط قلمى الرصاص، ذاك الذى هجرته فى أعظم لحظات إحباطى، وأستأنف الحياة مع رسوماتى،» هكذا أدرك الفنان الهولندى المأزوم، الذى تناوبته الصراعاتُ النفسية والمِحنُ طوال حياته، أن نجاته ونجواه تكمن فى الريشة وباليت اللون، على أن الإحباط هزمه فى الأخير، فأنهى حياته برصاصة، ربما فرارًا إلى الله، وإن بالطريق الخطأ!
فى لحظات إحباطكم لا تهربوا إلى النوم أو الطعام، بل الجأوا إلى الله، فعنده وحده مفاتيحُ شفائنا، ثم هاتوا بعض الأوراق البيضاء، وأقلام اللون، واملأوا الصفحاتِ خطوطًا وشخابيط، ارسموا الحزن على الورق، ثم مزقوا الورق، فيموت الحزن، وصفة مُجرّبة، ارسموا تصحّوا.