لا أدرى إن كان هذا المقال متأخرًا، أم ثمة رجاءٌ يُعوَّل عليه لم يزل! كلُّنا، تقريبًا، قدّرنا واحترمنا قرارَ د. محمد البرادعى بالانسحاب من «هَوَس» الركض المحموم صوبَ عرش مصر. أولاً: لأن التهافتَ على كرسى السلطان طمعًا فى المنصب ليس من بين أهداف رجل أحبّ مصرَ وقتَ استخفّ بها طامعون لا يرون فيها إلا مخازنَ غلال وجبَ نهبُها لمصالح خاصة، ليجعلوا منها، هى العزيزة أمُّ التاريخ والحضارة، محض «إمارةٍ» تابعة لدول بدائية مازالت تحبو بتعثّر نحو سُلَّم التحضّر، فلا تطاله. وثانيًا: لأننا ارتأينا، وقتَها، أن اللحظةَ «الركيكة» التى كانت تمرُّ بها مصرُ آنذاك ليست تناسبُه. رغم احتياجنا الماسّ إلى شريفٍ مثله فى تلك اللحظة المفصلية، لكننا ضننا به، وفضّلنا ألا نخسر أحد الكروت الشريفة القليلة التى فى حوزتنا، لكى ندّخره إلى لحظة أرقى و«أنظف» تليق بنظيف مثله. ولكن، وبالرغم من أن شيئًا مما سبق لم يتغير، حتى نغير قناعاتنا فيما سبق، وبالرغم من أن اللحظة لم تصفُ ولم ترْقَ عن سابقتها، بل ازدادت ظُلمةً وتدنّيا وتلوّثًا، إلا أنه يحقُّ لنا أن نراجع موقفَنا، ونعيدُ ترتيب كروتنا، فنشعرَ بالندم أن سمحنا له بالصمت، والانسحاب لنخسر ذاك الكارت النظيف! كم كان ماسًّا أن يكون البرادعى على رأس أولئك الفرقاء! وإن كانت اللحظة غير لائقة به. نقولُها الآن بكل صدق قلوبنا، وبكل هزيمِ وجلٍ يموج بأرواحنا: إن مصرَ الآن تناديك أن تمدَّ لها يدَك يا دكتور برادعى! مصرُ، أمُّكَ الطيّبة التى أحببتَها بكل فؤادك، تحتضرُ تحت وطأة معاول رجال غلاظ لم يتعلّموا أن يحبّوها، بل أحبّوا أنفسهم ومصالحهم وأهواءهم ومطامعهم، فاحترفوا الكذب والتزوير واللعب بعقول البسطاء ونقض العهد، إثر العهد، إثر العهد، دون أن يطرفَ لهم جفنُ حياء، أو تعلو جبينَهم حمرةُ خجل، أو تمسَّ قلوبَهم ريشةُ تأنيب ضمير! رافعين سوطَ «المغالبة»؛ لكى يقهروا شعبًا طيّبًا وثق فيهم حين قالوا: إنّا مؤمنون، وما هم بمؤمنين إلا بالسلطان وشهوة الكرسى وبريقه.
أحملُ إليك فى مقالى هذا، نبضَ مئات رسائل وصلت إيميلى، وصوتَ نداء عشرات الآلاف من متصفحى فيس بوك يريدون أن يصل إليك نداؤهم بأن: عُدْ! عُدْ واستأنفْ رسالتك فى إنقاذ مصر! تلك الرسالة التى بدأتَها، وحدَك، منذ سنوات فى مناهضة نظام مبارك، حين كان الآخرون يهللون له ويباركون خُطاه، ويُحرّمون الخروجَ عليه، إذ الخروجُ على الحاكم حرامٌ شرعًا، وإن كان ظالمًا أو قاتلا، مادام مسلمًا غير مشرك بالله! وها هم أنفسهم الآن يلعنون مبارك بملء الفم، دون خجل، ويسرقون ثورةً كنتَ أنت، وحدَك مع شرفاء مصر، المحّرضَ عليها، المُبين للناس «جهرًا» هولَ الظلم الواقع عليهم فى العهد السابق، فالتفّت حولك كلُّ القوى الناعمة من مقالات معارضة للنظام وأفلام تنويرية تحريضية وتظاهرات بلغت 8000 وقفة احتجاجية فى شهور قليلة، أعقبتها الثورةُ الشريفةُ التى طالما حلمتَ وحلمنا بها. تلك الثورة التى تمَّ الآن وأدُها وسرقتها على يد كذبة كانوا يناهضونها ويُكفّرون القائمين بها، ويستخفّون بدماء شهداء طاهرين أُريقت على جنباتها.
الآن، أظنُّ أنك لا تمتلك «رفاهية» الترفّع عن معاودة النضال لأن مصرَ تضيع أمام أعيننا ولا نملك حيال ضياعها سوى العجز والخوف من غدٍ مظلم لا يليق بمصر. ليس من حقّك أن تترك أمًّك تموت تحت أى مبرر! ولو كانت الكبرياءُ التى تمنعك من منافسة أناسٍ معظمهم دونَك بمراحل إن على مستوى الكفاءة السياسية، أو على مستوى الشرف والرقىّ والتحضر والمكانة العلمية والفكرية. اطرحْ جانبًا الآن كل الحسابات الشخصية ومُدّ يدك المتحضّرة، للمحتضرة النبيلة: مصر.