من الروايات الخالدة فى تاريخ الأدب رواية الأديب التشيكى العظيم فرانز كافكا، «القضية» أو المحاكمة فى بعض الترجمات، وهى رواية مواطن وجد نفسه فجأة متهما فى قضية لا يعرفها، ويحاكم فى محاكمة لا يفهمها، وكأن هذا هو قدره ولا فكاك منه، كافكا العظيم كان يرى هكذا وضع الإنسان فى الكون، ولم يكن الأمر فى تشيكوسلوفاكيا ذلك الوقت أوائل القرن العشرين سيئا إلى هذا الحد، كافكا كان صاحب رؤيا فلسفية للعالم والناس، وهذه الرؤية لم يشترك فيها كافكا وحده، بل اشترك فيها كل كتاب أوربا الكبار وحتى الآن وبدرجات وأنواع، لكنها كلها تصب فى خانة ضآلة الإنسان فى العالم، يحدث هذا فى الوقت الذى يتقدم فيه الإنسان الأوربى تقدما مذهلا فى الكون بما يكتشفه فى العلوم والتكنولوجيا وغيرها، طيب إذا كان هذا يحدث فى أوربا فماذا يمكن أن يحدث فى البلاد المتخلفة؟ أفريقيا وأمريكا اللاتينية مثلا، الذى يحدث أن الكتاب بدرجات صاروا يعودون إلى المنابع الأولى للأسطورة كبديل عن القمع الذى يمنع عنهم الحرية، من لا يستطيع أن يمارس حريته فى مكانه وزمانه يلوذ بمكان وزمان مختلف، وإن كتب عن زمانه يحلق بشخصيات ورؤاها إلى مستويات من العجائبية المفارقة لما تعود عليه الناس فى زمانهم الحالى، أعتذر لكم عن هذا الحديث فى الأدب الذى سأفسده الآن عمدا بالحديث عن السياسة والحياة اليومية فى مصر، السبب أشياء كثيرة صارت تظهر لى كل يوم، فمثلا قبل الثورة بعامين أصدرت وزارة الداخلية قرارا أظن وافق عليه مجلس الشعب ساعتها، بأن يتم تغيير بطاقة الرقم القومى مرة كل سبع سنوات، لماذا يا قوم ؟ قيل لأن الناس تتغير أشكالها وأحوالها كل سبع سنوات، والحقيقة طبعا غير ذلك، السبب هو تدويخ المصريين وجمع الأموال فى الصندوق الخاص للشرطة ليصرفها كبار رجاله، لا أظن أن شيئا من أموال أى صناديق خاصة يصل للدرجات الأدنى من الموظفين، ليس فى الشرطة وحدها، ولكن فى أى مكان، صدر هذا القانون فى الوقت الذى لا يجد فيه الشباب عملا ليتغير كل سبع سنوات، وإذا وجد فهو يتغير كل شهر لأنه مؤقت فى المقاهى والديلفرى ودورات المياه وغالبا بالتيبس، أى البقشيش، ومثل هذه الأعمال لا تعطى الشاب شيئا يثبت أنه يعمل فيها، وطبعا لا يجد مسكنا مستقرا ولا يجد فرصة للزواج، وأيضا بالنسبة لكبار السن يكونون قد استقروا فى حياتهم، وليس من حاجة ولا قدرة ليغيروها كل سبع سنوات، ولا كل عشرين لأنهم لن يعيشوا لا السبعة ولا العشرين، هذا القانون السخيف منسى تماما ولا أحد يتحدث عنه بعد الثورة، وكان يجب ولا يزال أن يقال لمن وضعوه إن كل شىء عن أى شخص موجود على الكمبيوتر الآن، فإذا تزوج فقسيمة الزواج بالكمبيوتر، وإذا كان لديه شقة فعنوانها فى الكهربا على الكمبيوتر، وكل هذه الأجهزة طبعا يمكن الربط بينها، وكذلك إذا خلف أو إذا مات وارتاح إلخ، لكن لماذا يتم الربط بينها ومن يدفع للصناديق الخاصة؟ ولماذا لا يطلع عين أم المواطن فى الطوابير ليثبت أنه كبر فى السن سبع سنوات، أو تزوج أو خلف أو عزّل أو أى شىء، هل يمكن لمجلس الشعب الجديد أن يلغى هذا القانون، أتمنى ذلك.
شىء آخر أدهشنى جدا، حكى أحد الشباب أمامى كيف ذهب يفتح حسابا فى البنك فطلبوا منه وصل الكهرباء، ليثبت أنه موجود فى العنوان الذى فى البطاقة، أى أن البطاقة التى سيتم تغييرها كل سبع سنوات تحريا للدقة لا قيمة لها، ولما سأل لماذا قالوا تعليمات البنك المركزى، لاحظ أنه سيفتح حسابا ليضع فيه فلوسا فى البنك لا كى يأخذ مثلا قرضا بلا ضمان، لم أجد تعليقا غير أنها البيروقراطية المصرية، وتذكرت مرة كنت فى فرنسا بعيدا عن باريس وكان لى مبلغ بسيط عند دار النشر التى نشرت أحد كتبى، فطلبوا أن أفتح حسابا يرسلون لى عليه هناك، حيث سأمضى وقتا طويلا، ذهبت إلى البنك ففتح لى الحساب وعرفوا من جواز السفر أن إقامتى ثلاثة أشهر فقط، ولما سألت السيدة التى تقوم بذلك كم أدفع حتى يفتح الحساب قالت لا شىء، ولما رأتنى مندهشا قالت إن فلوسك ستأتى على البنك فنحن المستفيدون ولا نريد أى شىء بل وأعطتنى دفتر شيكات بالفرنك ذلك الوقت، ولم يكن فى حسابى بعد مليم واحد، أنت هناك برىء وإذا ارتكبت جريمة ستحاسب، وليس مجرما بالفطرة كما أنت هنا فى مصر عند المسؤولين، أما العنوان فقالت لى اكتب العنوان الذى نراسلك عليه، فكتبت عنوانى فى مصر فلم تعترض لأنى حر، وإذا كان العنوان خطأ، فالضرر سيقع على أنا، وكان فى الجلسة التى تحدث فيها الشاب عدد من الأصدقاء الكبار فضحك أحدهم وحكى أنه لبى دعوة البنك الذى فيه حسابه فى مصر لتحديث البيانات فوجدهم يقدمون له استمارة غريبة جدا فيها اسم الزوجة، قال لنفسه لا مانع.. ثم عمل الزوجة، غريبة تليفون الزوجة وهكذا وهكذا، وليس ذلك فقط، بل من أين تحصل على النقود، وكم تحصل كل عام بالتقريب، أقل من مائة ألف أم أكثر إلى آخره فجلس يضحك، أحس أنه فى مصلحة الضرائب، ولما سأل الموظف من صمم هذه الاستمارة قال له البنك المركزى، لاحظ أيضا أنه لم يذهب ليقترض من البنك، وإذا اقترض فلن يزيد ما يقترضه عما فى حسابه وهو لا يسمن ولا يغنى من جوع، وبالمناسبة كل الذين يقترضون الملايين هربوا وكانوا بلا عنوان، فدخل شخص ثالث فى الحديث وقال إن ابنه فى الخارج أرسل له مائتى دولار فى حوالة، فذهب يستلمها من بنك اسمه «المتحد» فوجد استمارة طويلة وعريضة لا ينقصها إلا أن يكتب اسم أمه، ولما سأل الموظفة قالت: تعليمات البنك المركزى، وكان من أغرب ما فيها سؤال عن سبب إرسال النقود وأوجه صرفها، ماذا يفيد البنوك التى هى أمينة على أسرار عملائها من هذه الأسئلة، لا أحد يعرف، أنت يا عزيزى متهم عند هذا النظام الذى سيطر عليه التفكير الأمنى فى كل شىء ولا يزال، بينما اللصوص يخرجون بأموال الشعب فى حقائب وطائرات، الأصل فى الدنيا يا بشر هو أن الإنسان يحاسب إذا ارتكب جريمة إلا فى بلادنا، فالإنسان مؤكد سيرتكب الجريمة وشكله وحش، شوف المصرى مجرم وبلطجى عند هذا النظام الذى لا يريد أن يتزحزح عن مكانه المصرى الفقير بالذات.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
بوحه
لجميع القوى الثوريه انتهت الثوره