لا أصدقُ أنه لن يقرأ هذا المقال! عم «محمد كامل» الذى لم يترك لى مقالاً أو كتابًا إلا وكان أوّلَ قارئيه، ولا ندوةً لى أو أمسية فى مصر، إلا وحضرها مهما كان ظرفُه، لكن ظرفَه اليومَ مختلفٌ، لن أسمع صوته فى الهاتف كلَّ أسبوع بعد قراءة مقالى ليخبرنى عن رأيه، اختفى صوته من حياتى للأبد، واختفى معه خيطُ فرح وحُنوٍّ؛ كان يربط بين شرنقةِ وحدتى، وبين عالم غريب عنى، بصخبه وضجيجه وشروره وبرجماتيته، عام 2009 كتبتُ عنه مقال: «أجمل قارئ فى العالم»، وعام 2011 كتبتُ: «تكريم قارئ فوق العادة»، حين كرّمه أدباءُ مصر ومثقفوها فى «أتيليه القاهرة، بوصفه قارئًا عزَّ نظيرُه فى مجتمع لم يعد يحفل بالقراءة والثقافة والفنّ، ولم أتصوّر أن يومًا قاسيًا سيأتى لأضيفَ كلمة: «رحيل»، إلى عنوان مقال عنه! وأين رحل، ومتى؟ تلك تجربةٌ عسِرة، وضعنى اللهُ فيها، أسأله أن يساعدنى على تجاوزها.
تعرفون العمَّ كامل، العجوز الطيب، صديقُ مثقفى مصر، وأهمُّ قارئ فى بلد بلا قراء، زارنى الخميسَ الماضى مع حفيدته «رحمة»، حاملاً أكياس الفاكهة، هو الرجلُ رقيق الحال، وحامل الحب، وحامل العتاب، فأما الحبُّ فكان زادى أحتمى به من جفاء الناس، وأما العتابُ فلأننى تأخرتُ فى إهدائه (الوصمة البشرية) و(صانع الفرح)، كتابىّ الأخيرين، أحضرتُ الكتابين؛ ففتح الصفحةَ الأولى، ورمقنى بنظرة عتابٍ جديدة، فاختطفتُ القلمَ ووقّعتُ له الإهداء المعتاد: «إلى الأغلى، العمّ كامل، أجمل قارئ فى العالم». راح يحتسى فنجانَ القهوة، ثم طلب أن يستمع إلى «أم كلثوم»، وما إن انساب النغمُ، حتى شرع يدندنُ، ويحكى لحفيدته عن عبقرية عبدالوهاب فى هذا اللحن، هو الحكّاءُ الجميل الذى احتوى فى قلبه تاريخَ مصرَ الثرىَّ، فيما أنامله تتصفح الكتابين، أما الكتابان، فلا يزالان فوق طاولة القهوة فى بيتى! لم يأخذهما معه إلى حيث ذهب، ولا أقدر أن أمسّهما وبهما إهدائى إليه؛ ذاك الذى كان آخر ما قرأ فى هذا العالم، قبل أن يغادره ويطير إلى حيث عالم المُثُل والحبّ والعدل والسلام.
لماذا، اخترتَ بيتى لتودّعَ العالمَ من خلاله؟ لماذا، دون مقدمات، احتبس الهواءُ فى صدرك؟! لماذا توكأتَ على ساعدى وأشرتَ إلى كرسى «عمر» الهزاز لتجلس عليه جوار النافذة؟ تنظرُ إلى السماء، باب الرحمة، وتتمتمُ لله بما لم نسمعه؟ لماذا نظرتَ لى وغامت عيناك الطيبتان؟ ولماذا طمأننى طبيبُ الإسعاف حين صرختُ فى وجهه ألا يُخبرنى بما أكره، لأننى لن أقوى على سماعه؟! رفعتُ دعائى لله ألا يضعنى فى تلك التجربة؛ لأنها فوق قدرتى، لكن خطّة الله نافذةٌ، لأنها الأصوبُ، وإن لم نفهم، أنا الآن فى شقّتك البسيطة بحى باب الشعرية، حولى نساءٌ مُتّشحاتٌ بالسواد، وصوتُ المنشاوى، وآلافُ الكتب منتثرة فوق طاولة طعامك وسريرك ومكتبتك، معى جارنُا د.هانى سمعان، الذى حملك على كتفيه ليسرع بك إلى المستشفى فى محاولة يائسة لإنقاذك، تقولُ «أسماء» ابنتُك إن الله اختار لأبيها أن يموت بين يدى لأنه أحبّنى مثلما أحبَّها، ولستُ أعرفُ هل من حُسن حظّى أم بِئسه، أن أشهدَ لحظتك الأخيرة! ولستُ أدرى مَن سيدعو لى مثلك كل يوم فى صلاته ألا يُكسر لى قلمٌ؟! ولا أعرف مَن بوسعه أن يشغل مقعدَكَ الدائمَ فى نادى القصة ودار الأدباء والأتيليه وورشة الزيتون واتحاد الكتّاب وجمعية محبّى الفنون الجميلة، وفى قلبى! كل ما أعرفه أن يومَ الأحد مرّ ولم أسمع صوتك فى الهاتف كما عوّدتنى منذ سنوات بعيدة لتشدَّ على يدى وتشجّعنى، وأعرفُ أن الآحادَ والأسابيعَ والشهورَ ستتوالى، دون أن يدقَّ هاتفى اسمُك، ودون أن أسمع صوتك يُطمئننى أن العالمَ طيبٌ، رغم كل شىء.