تحدث الجميع عن «العشاء الأخير» ولم أعرف ما يقصدون، أعرف قصة العشاء الأخير، ورأيت لوحة العشاء الأخير لدافنشى، ويوم رأيتها أحسست بالفخر، لأنه أتيح لى أن أرى واحدة من أشهر اللوحات، خطر على بالى أنه قد يكون ما يتحدثون عنه فيلما مثل فيلم «شفرة دافنشى» الذى اتخذ من لوحة «العشاء الأخير» موضوعاً مثيراً لفيلم كبير أفشلته الدعاية الزائدة.
ولكن صديقى- وكان كلهم أصدقائى- استنكر ما فكرت فيه، كيف جهلت ما يقصدونه بالعشاء الأخير.
قال صديقى: تجمع الكل فى مصر المحروسة، حول مائدة العشاء، تلمظ الجميع، وجحظت أعينهم فالطعام كان طيباً ومغرياً.
وقاطعه صديق آخر ليقول لى: أعرف أنك تغرق فى شبر ميه، لذلك سأشرح لك من البداية، هل تعرف قصة الملك ميدياس؟ طبعاً تعرفها، كان الملك ميدياس عاشقا للثراء، لذلك تمنى أن يتحول كل ما يلمسه إلى ذهب، وتحققت أمنيته، وفى لحظات تحول إلى أغنى من قارون، ولكن عندما امتدت يده إلى الطعام تحول إلى ذهب، ولا يخفى على جنابك أن الإنسان لا يستطيع أن يأكل الذهب، وطبعاً تحول الماء أيضاً إلى ذهب، وهكذا عاش الملك ميدياس الجوع والعطش، أظن أنه مات مقهوراً، فأنا لا أذكر الأسطورة جيداً.
المهم أن المدعوين على العشاء الذى نحدثك عنه- أو الذين دعوا أنفسهم إليه- أحاطوا بمائدة مصر المحروسة يريدون التهام ما عليها، وما عليها ليس طعاما ولا شرابا.
قال أحد الأصدقاء:
كان حول المائدة ثلاثة عشر مقعداً، تسابق عليها الملايين، وفى النهاية جلس ثلاثة عشر - وهو رقم يراه أهل الغرب نحساً - ولكننى لا أراه كذلك، وما آلمنى هو أن الرجل الذى لم يجد مكانا حول المائدة كان أكثرهم جوعاً وعطشاً، الغريب أن الجميع ابتسموا له وأرسلوا له التحيات، لكنهم لم يسمحوا له بالاقتراب من المائدة.
انفجر أحدهم ضاحكاً: هذا هو الوحيد الذى خرج من المولد بلا حمص مع أنه صاحب المولد وزارع الحمص.
نظرت إلى أصدقائى وقد بدا لى أن اللغز أكثر من قدراتى: يا جماعة أنا لا أفهم ما تقولون، مائدة عليها ذهب وثلاثة عشر مقعداً، ورجل جائع ولا يجد فرصة ليأكل شيئاً، بصراحة أنا لا أعرف ما تقولون.
قال أحدهم: سأشرح لك، وأظنك ستتابع ما نقول إذا قدمنا لك من تربعوا على الكراسى.
على رأس المائدة رجل يبدو على وجهه الطيبة والعنف.
قاطعته صائحاً: كيف يبدو على وجهه الطيبة والعنف معاً!!
قال: لو أنك قاطعت هكذا فلن ننتهى فى يومنا هذا، يا أخى حاول أن تفكر بدلاً من الاعتراض، كما قلت، على وجهه سمات الطيبة والعنف، وأزيدك عليها كى لا تعترض.
بعد ذلك: هو متبرم من طول الجلسة، ولكنه لا يريد أن يترك المكان، مرتبك لما نقول؟ جميعنا مرتبكون.
الثانى يجلس أمام الأول مباشرة يتهمه بأنه يضع يده على كل الأطباق، فإذا اعترض ابتسم له وقال له أنت صديقى وحبيبى وحليفى، وإنك لا يمكن أن تهاجمنى لأنه لا يهاجمنى إلا القردة والخنازير، ثم أنا- بفضل من الله- سأفتح مصر.
لا تظن أن عمرو بن العاص هو الذى فتح مصر، هذا ليس صحيحاً وعموماً أنا ضد كل من اسمه عمرو بدءاً من عمرو موسى إلى عمرو حمزاوى إلى عمرو الشوبكى إلى عمرو أديب... إلخ، فقط أحتاج إلى امرأة تصيح: «وامعتصماه» ولأننى المعتصم فسأنفخ فى النفير: هيا للقتال، فيجتمع ورائى الملايين فأغزو مصر بمشيئة الله، ولأننى غزوتها سأحكمها، وسترون كيف أحكمها؟
استطرد صديقى: عندما وصل الثانى إلى حالة الحماس هذه صاح جاره أو الثالث: لنقتلهم جميعاً ولنسقط هبل والعزى واللات وكل الأصنام. ولما تدخل فى الحديث شخص لا أذكره قال: إن اللات والعزى وهبل وغيرها سقطت منذ أكثر من أربعة عشر قرناً. صاح فيه الثالث: إن هذا غير صحيح، لأنه رأى اللات بالأمس عند كوبرى قصر النيل على شكل أسد!
قال صديقى: الرابع لم يكن جالساً مثل الآخرين، بل كان راقداً على ظهره، ونظراته شاردة تعبر عن الحكمة، على شفتيه ابتسامة غامضة وكأنه يقول: افعلوا ما تشاؤون، هذه المائدة كانت لى وستبقى لى، تصارعوا كما تشاؤون فكلما فعلتم انتصرت أنا.
وأثنى على ابتسامته الخامس، وللحقيقة كان الخامس هذا منقراً للجميع، كان يعلق إلى جانبه سيفاً قصيراً، وحول أصابعه بونية حديد، وخبط على صدره قائلاً: أنا صاحب هذه المائدة ووارثها، هى بالطبع لسيدنا. الرابع: لكننى خادمه الأمين، خادمه هو فقط، لكننى سيد الآخرين، ومن لا يعجبه فسأذبحه الآن ولن ينطق أحد.
قاطعت صديقى وقلت له: يبدو أننى بدأت أفهم، تقصد الأحوال فى مصر المحروسة الآن، وكيف أن الجميع يريدون الاستيلاء عليها، طبعاً عندما تقوم ثورة ولا يعرف أحد من قام بها، فسيحاول الجميع الاستيلاء عليها، حكى لى أحدهم أن سائق التاكسى قال له: عارف مين اللى عمل الثورة دى؟ أنا بعون من الله وإذا ما ختش حقى، هاجيب بنزين وأعمل ثورة ثانية، وقال آخر: هو أنا فاضى، أنا عملت الثورة، كفاية على كده، كملوها، هو مفيش غيرى فى البلد، الجميع يدعى أنه صاحب الثورة ما عدا الرجل الجائع الذى لم يجد مقعداً حول المائدة.
قاطعنى الصديق الصامت: هكذا تفسد الأمور دائماً، كنا سنعرفك بالثلاثة عشر عشر رجلاً الذين أحاطوا بالمائدة، وأرادوا أن يفترسوا ما عليها، طبعاً تستطيع أن تخمن، ولكن من خمن ليس مثل من رأى، تصور أحدهم كان فى غاية السعادة إلى حد أنه لم يمد يده إلى المائدة، ولماذا يفعل وهو شبعان وسعيد ولماذا؟ لأن هولاند فاز على ساركوزى، اليسار فاز على اليمين، وصديقنا لا يسعى للفوز أبداً منذ أكثر من قرن كلما خطا خطوة كسروا له رجلا، حاول المستحيل، لكنه عجز عن أن يحقق إنجازاً حقيقياً، ومنذ وقت مبكر أخذ يتباهى بما يحدث فى الخارج، كان يتباهى بالاتحاد السوفيتى، لكنه سقط، يتباهى بالصين لكنها تنحو إلى اقتصاد شبه رأسمالى، الآن يتباهى بهولاند، لدينا الربيع العربى وأوروبا قادم إليها الربيع الاشتراكى.
قلت لهم: ضقت ذرعاً بتلك الأحاجى، واسمحوا لى أن أبسط لعبتكم إلى النهاية، اجتمع الكل حول المائدة يريدون نهبها لكن، ليس فى الثلاثة عشر من هو رشيد، هذا لم يكن يحتاج كل هذا، ولو أنكم أشرتم لفهمت، فليس فى هذا البلد من لا يلاحظ أن الجميع حاصروا المائدة بلا رحمة.
قال صديقى: وأين المتعة فى التعرف على هذه النماذج، تصور شخصا تقول له هيا نركب القطار فيعترض قائلاً: الله لا يرضى بهذا! فتفشل أمام هذا الاعتراض ولا تستطيع النقاش.
وتؤثر السلامة فأنت حريص على دينك، وتنسى أنه لا أحد من حقه أن يتحدث باسم الله سبحانه وتعالى.
قلت لهم: أعرف هذا النوع فلقد كان لى قريب كلما جاء ذكر شىء قال: بيقولوا حرام! فيرد عليه آخر: لا بيقولوا حلال! ولا أظن أن الأول عرف من يقول، والثانى أيضاً لا يعرف من يقول.
قال صديقى: أنت تميل إلى المزاح، وهو لا يليق بالموقف الصعب الذى نمر به، كنا نريد أن نحدثك عن بقية الجالسين على الكراسى لكنك مستمع سيئ، المهم.. فى النهاية، إننا أردنا أن نحكى لك عن العشاء الأخير.. يارب! نتمنى ألا يكون الأخير.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
اسماء
thnx