حديثى مستمر موضحا لهؤلاء الذين يريدون التضييق على الكتاب والفنانين بقوانين للرقابة، أو الهجوم الدائم عليهم من باب الدين أو الأخلاق السائدة كما يرونها.. حديثى مستمر عن القوانين التى بعدم وجودها لا يوجد فن، وحديثى هنا متصل أيضا بالأخلاق والدين، لأنه ليس من الأخلاق والدين أن تحكم على شىء بقوانين أشياء أخرى!
تحدثنا المرة السابقة عن الشعر، وهذه المرة نتحدث عن الرواية التى يقرأها أصحاب الفكر السلفى أو الوهابى باعتبارها مقالا، أو باعتبارها عملا يقصد به العبرة والنصيحة، والرواية فن أدبى ظهر متأخرا عن الفنون الأدبية الأخرى ربما بأكثر من ألف سنة، فإذا كان اليونانيون عرفوا المسرح فى القرن الرابع قبل الميلاد، فالمسافة الزمنية التى تفصل المسرح عن الرواية التى ظهرت فى القرن السابع عشر تكون ألفى سنة، فما بالك بالشعر الذى هو قبل المسرح، والرواية منذ ظهورها الأول عمل يراد به إعادة إنتاج الحياة كما يراها الكاتب، ومن اللحظة الأولى يعرف الكاتب أو أى عاقل أن إعادة إنتاج الحياة لن يجعلها كما هى، لأنه لا معنى أن تنقل شيئا إلى الفن كما هو، لأنه أيضا لا معنى لأن يرى القارئ ما حوله مرتين، وهكذا من البداية، فالرواية أيضا إبداع ذاتى للفنان مهما كان فيها من قضايا وأفكار، لكن هذا لا يعنى أبدا أن الكاتب يسيطر على كل شىء فيها، هو يبنيها ويكتبها أيضا، لكنه منذ اللحظة الأولى للكتابة يشعر أن شخصيات الرواية هى شخصيات إنسانية على المستوى المجازى وليس الحقيقة، يخلقها وهو يعرف أنها لن تخرج من الرواية لتمشى على الأرض، هذه الشخصيات تتحرك فى الرواية ومنذ أول حركة تصنع لنفسها حياة مستقلة عن الكاتب حسب غناها الروحى والعقلى، وهذا الغنى قد يكون إيجابيا أو سلبيا، خيرا أو شرا، لكنه فى كل الأحوال ليس مما تعود عليه الناس من حولهم، بل يفارقه ويعلو عليه فى الخروج على المألوف، شخصيات العمل الفنى عموما شخصيات جانحة، بمعنى أنها مفارقة للعادة، وإلا ما الذى أجبر قارئا على قراءة شىء عن ناس عاديين وهم حوله كل يوم، هذه الشخصيات لا تكون متشابهة، بينها العالم مثلا والعالمة! وبينها الغنى والفقير العاقل والمجنون والطيب والشرير والكبير والصغير والرجل والمرأة والقاضى والمجرم والضحية والجلاد والمدنى والعسكرى وهكذا، وكل شخصية من هؤلاء لها لغة وتاريخ وطريقة، والكاتب المسكين يتماهى أو كما يقولون يتقمص كل شخصيات روايته ليكتب بلغتها ويتصرف على طريقتها، فهو هنا رغم أنه هو المبدع لها كلها، لكن هى التى تبدع عمله ولا يمكن أن يكون الكاتب واحدا من هؤلاء، وأهم ما يسعى إليه فى هذا المحفل للغات والتصرفات هو ما يعرف بالصدق الفنى، فلا يكون من الفن أن تتحدث العالمة بلغة العالم ولا العكس، ولا المجرم بلغة القاضى ولا الضحية بلغة الجلاد ولا الشاذ بلغة السوى ولا الكافر بلغة المؤمن ولا الشيخ بلغة المارق وهكذا، إذا تشابهت طريقة الشخصيات تسقط الرواية وتصبح عملا تقريريا تعليميا لا يقرأه أحد لأن المثير فيها هو هذا الاختلاف النابع من الصدق الفنى، هذه مسألة مهمة جدا لأنك لا تستطيع أن تقول للكاتب إنك خارج عن الأدب، بالمعنى الأخلاقى أقصد، لأن هذه الشخصية خارجة عن الأدب أو حدود الأعراف السائدة، لأنها هى التى كذلك وليس الكاتب، ففى الرواية شخصيات أخرى، ومن البداية لابد أن يكون معروفا أنه فى الفن لا معنى للشخصيات العادية، فالطيب فى الفن لا تشعر أنه طيب إلا لأن طيبته فاقت الحدود وكذلك الشرير، إذن ما هو دور الكاتب إذا كان يستسلم لشخصياته كل هذا الاستسلام، دوره هو فى بناء الرواية، فالرواية مثل العمارة يجب ألا يكون فيها بروز يخرج عن اتساقها ويشوه جمالها ومفرداته، سواء كانت مبنى تراثيا أو مبنى عصريا أو يمزج بين الاثنين..
الشكل الجمالى للرواية هو مهمة الكاتب الكبرى ومن أهم قوانين هذا الشكل الجمالى أن تكون كل شخصية قائمة بذاتها لغة ومظهرا وحركة وغير متداخلة مع الشخصية الأخرى، فإذا رأى الكاتب وهو يعيد كتابة الرواية أو قراءتها قبل النشر أن شخصية أمية تتحدث بلغة العالم فعليه أن يحذف ذلك، أو راقصة تتحدث بلغة الشيخ فيحذف ذلك حتى يتحقق الصدق الفنى، أى أن بناء الرواية أيضا مهمته الحفاظ على مضمونها، والرواية الجميلة لها دائما أكثر من مستوى للقراءة، مستوى للقارئ العادى ومستوى للقارئ غير العادى، فالقارئ العادى يجد المتعة فى التشويق فى الرواية مثلا أو فى الأحداث التى لم تخطر بباله أو فى طريقة الشخصيات فى الكلام أو فى القصة نفسها، قصة حب فائق أو انتقام أو غيره، لكن القارئ غيرالعادى يستطيع أن يصل إلى المعانى الخفية، وهى دائما مع الكاتب الموهوب أكثر من معنى، أو معنى فلسفى عميق، ولأضرب مثلا برواية أو اثنتين لنجيب محفوظ الذى لا يفهمه أبدا هؤلاء الداعين لمحاصرة الفن والأدب، والمثل هو من رواية ذائعة الصيت مثل رواية «الطريق»، بطلها يبحث عن أبيه، وفى رحلة البحث يقابل امرأتين، غانية وصحفية، الغانية التى يغرق معها فى الجنس على غير ما يفهم القارئ العادى، تمثل الروح لا المادة، لأنها فى الأصل محاصرة بالحياة مع رجل عجوز عاجز جنسيا وتريد الانطلاق، الثانية الصحفية العاقلة تمثل المادة وليست الروح لأن كل شىء عندها قائم على المنطق، أى أن الشخصيتين على غير ما يتصور القارئ العادى، يتقلب البطل بين الروح والمادة وهو يبحث عن أبيه، وأبوه هو سيد سيد الرحيمى، إذن هو لا يبحث عن أب عادى، لا يوجد أب عادى يستحق هذه الحياة فى البحث عنه، حياة تتقلب بين المادة والروح، هو فى الحقيقة يبحث عن الهداية، عن الله، سيد سيد الرحيمى، إذا انتقلنا إلى رواية أخرى مثل «اللص والكلاب» نجد أنها رواية البحث عن الثأر الشخصى، فبطلها سعيد مهران يريد أن يثأر ممن خانه مع زوجته أثناء غيابه فى السجن، لكنه دائما فى كل عملية قتل يفشل، ينتقل ليقتل كل من أساءوا إليه واحدا واحدا فيفشل، القصة هكذا مشوقة وتجعل القارئ يأسى من أجل هذا المسكين الضائع، وفى طريقه إلى ذلك يقابل أنواعا كثيرة من البشر، لكن لماذا يفشل سعيد مهران دائما؟ لأن نجيب محفوظ يريد أن يقول إن تغيير الحياة لا يقوم على عمل فردى، لابد من عمل جماعى، الفرد وحده لا يستطيع تغيير العالم، أراد أن يقول ذلك فى وقت كان الجميع فيه يهللون للقرارات الاشتراكية التى أصدرها عبدالناصر فى بلد تم فيه إلغاء الأحزاب وكل عمل جماعى وهكذا بعيدا عن السياسة المباشرة المملة كان العمل الفنى الفذ، ومن ثم لم تكن الرواية رواية ثأر شخصى كما تبدو للقارئ العادى.
باختصار الرواية وهى إبداع الكاتب لها قوتها وقوة شخصياتها وقوة العمل بعيدا عن الكاتب نفسه، وحين يتدخل الكاتب يتدخل لتأكيد ذلك، ولإعطاء الرواية أبعادا خفية على القارئ العادى، والسؤال هو كيف نقرأ الرواية؟ ليس مطلوبا من القارئ العادى أن يصل إلى أعماق فلسفية، وأيضا ليس مطلوبا ممن يدعون الثقافة والعلم أن يكونوا أقل من القارئ العادى فى القراءة، فيقرأون الرواية باعتبارها مقالا يسأل الكاتب عما فيه، الحكم على العمل الفنى يكون بقوانين الفن لا قوانين أخرى.