منذ بدأت السلطة فى التاريخ والمحكومون انشغلوا بفكرة الحاكم العادل، وأصبح العدل ضالة الشعوب، ومنذ فترة مبكرة من التاريخ انشغل الفلاسفة بماهية الحاكم العادل ووضعوا تصورات افتراضية لكينونته ولم يتوصلوا إلى ما يمكن وجوده.. وفى هذا قال أفلاطون إن الحاكم لكى يكون عادلا ينبغى ألا يتزوج وألا يملك لأنه فى الحالتين سوف يميل فى قراراته ويصبح بالضرورة منحازا، وفى فترات لاحقة كتب الفارابى «المدينة الفاضلة»، وكتب توماس مورو «يوتوبيا»، وكتب كمبانيلا «مدينة الشمس».. إلخ.
ومنذ عرف المصريون سلطة الملك - الإله زمن الفراعنة وهم يسلمون قيادهم له باعتباره واهب الحياة، وكل ما كانوا يطلبونه منه هو العدل والرحمة، ومع نزول الأديان السماوية ظل المصريون يتعاملون مع الحاكم على أساس أنه اختيار إلهى له مكانته واحترامه، فاستمر يتحكم فى أمورهم، واستمروا هم فى الاعتماد عليه لقضاء حوائجهم المعيشية، وعندئذ يصبح هذا الحاكم محل تقدير واحترام وتصبح طاعته واجبة، أما إذا تأخر فى قضاء الحوائج أو امتنع عنها عامدا متعمدا انهالت عليه اللعنات من كل حدب وصوب ويرفع الناس أكفهم إلى السماء ابتهالا إلى الله لكى يزيل الغمة من طريقهم ويفرج كربهم، وهذه الدولة تعرف فى الفكر الاجتماعى بالدولة «المعيلة» أى التى تعيل رعاياها من المهد إلى اللحد فيسبح الناس بحمدها، ويدعون للحاكم بطول العمر.
ولقد عرف المصريون فى تاريخهم الحديث على الأقل هذه الدولة «المعيلة» مرتين: الأولى كانت زمن حكم محمد على باشا عندما أمسك بخيوط الأمور الاقتصادية والاجتماعية فى يده لبناء القوة، ونجح فى ربط المصريين بسياسته حين جعل التعليم مجانا وأوجد الوظيفة للمتعلم فور انتهائه من دراسته، فنشأت الطبقة الوسطى فى مصر، وحين قام بمنح مساحات من الأراضى لصفوة من أبناء المجتمع لكى يرتبطوا به، وقد انتهت هذه الدولة «المعيلة» بالاحتلال البريطانى الذى فرض الرسوم المالية على التعليم، فبدأ الفرز الطبقى بين من يملكون ومن لا يملكون، وانفتح المجال واسعا لحكم أصحاب المال، والمرة الثانية للدولة «المعيلة» كانت زمن حكم عبدالناصر حين جعل الدولة تقوم بالدور الاقتصادى والاجتماعى، وأخذ من الأغنياء وأعطى الفقراء فاطمأن الناس على يومهم ومستقبلهم وأصبح «حبيب الملايين»، ولهذا لم تقم ضده ثورة اجتماعية احتجاجا على غلاء الأسعار أو على تفشى البطالة.
أما بين دولتى محمد على وعبدالناصر فكان المصريون أمام «الدولة الظالمة»، حيث الحكم فى يد الأغنياء من كبار ملاك الأراضى الزراعية وأصحاب رأس المال الصناعى والتجارى الذين اهتموا بحماية مصالحهم على حساب الفقراء، فكان التوتر الاجتماعى قائما وأتاح الفرصة لظهور الأفكار والحركات المعادية للحكم، وكذلك الحال بعد عبدالناصر، حيث رفعت الدولة يدها عن الدور الاقتصادى - الاجتماعى وتركت الأمور لأصحاب رأس المال الذين عادوا للحكم مرة أخرى واحتكروا الحياة السياسية، وخاصة زمن مبارك، ومن هنا انفجرت الثورة فى 25 يناير كما هو معروف «2011».
والآن يواجه المصريون مشقة اختيار الدولة الجديدة بمقتضى انتخابات الرئاسة، وغالب الظن أنهم سوف يختارون بحسهم التاريخى الدولة «المعيلة» التى ترعى مصالحهم، وحينئذ يحدث التماسك الوطنى والالتفاف حول الرئيس الجديد. وعلى هذا الأساس فإن الفرصة متاحة للدولة «المعيلة»، وهى الدولة المدنية ذات الطابع الليبرالى أو الاشتراكى، وهناك بين المرشحين من يمثلها، أما الدولة الدينية التى يمثلها الإسلاميون أيا كان اسمهم فلن تحظى بتأييد غالبية المصريين، لأن هؤلاء الإسلاميين أصحاب مصالح رأسمالية تستهدف الربح أولا وأخيرا.. ورأس المال عادة لا يعرف الوطن أو الدين أو الملة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محي
الحديث عن دوله دينيه اليوم يستشعر الحرج لشده تخلفه فهو حديث لا يليق بهذا الزمن....
عدد الردود 0
بواسطة:
محي
الاخوان والتحجر الفكري