اصطف المصريون فى مختلف دول العالم أمام سفاراتهم للإدلاء بأصواتهم فى أول انتخابات رئاسية تنافسية تشهدها الدولة المصرية على مر العصور، ورغم قلة عدد من أدلوا بأصواتهم (قرابة الـ250 ألف ناخب مقارنة بعدد المصريين العاملين فى الخارج حوالى 8 مليون مصرى)، فإن حدوث هذه الواقعة الانتخابية المصغرة ونتائجها غير المتوقعة لدى البعض، تستحق القراءة بل والتأمل لما تحمله من ملامح أولية قد تكشف العديد من أبعاد العملية الانتخابية الحاصلة فى الداخل.
ووفقًا للنتائج النهائية فى عدد كبير من الدوائر الانتخابية كـ(الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر ومملكة البحرين) وعدد من الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية، وأخيرًا المملكة العربية السعودية، تصدر أصحاب المرجعية الإسلامية المقدمة كالدكتور (محمد مرسى وعبد المنعم أبو الفتوح)، وتقدم بشكل ملحوظ المرشح الناصرى السيد «حمدين صباحي»، والذى فيما يبدو أن تقدمه يرجع إلى استحواذه على أصوات من يرفضون مرشحى المرجعية الإسلامية وكذلك مرشحى النظام السابق فى ذات الوقت.
فى حين تواجد بالمركز الرابع والخامس كل من الفريق «أحمد شفيق» والسيد «عمر موسى» المحسوبين على النظام السابق، وبالتالى تتضاءل فرصهم فى الوصول لجولة الإعادة، وذلك بخلاف ما كانت تقره علينا ماكينة استطلاعات الرأى الداخلية.
ورغم ما كانت تحويه انتخابات العاملين بالخارج، من إجراءات مُقلقة بعض الشيء لاسيما بقاء الصناديق مدة أسبوع كامل داخل السفارات، وكذلك عملية إرسال المظاريف إلى القنصليات وما بها من ثغرات، فإن سير العملية الانتخابية بث الطمأنينة فى القلوب فيما يتعلق بالتزوير؛ إذ حضر ممثلو المرشحين فى اللجان وشاهدوا الفرز بأنفسهم واستلموا بأيديهم جداول النتائج النهائية مختومة بختم القنصلية.
علاوة على ذلك فإن إعلان أمين عام لجنة الانتخابات الرئاسية القاضى «حاتم بجاتو» بأن 62 شخصًا على مستوى المصريين فى الخارج ذهبوا إلى السفارات للإدلاء بأصواتهم إلا أنهم وجدوا أنهم قاموا بالتصويت، يُعطى مؤشرًا إيجابيًا على حالة الشفافية والمصارحة لدى اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، وهو ما نتمنى أن يستمر أثناء سير العملية الانتخابية فى الداخل.
والحقيقة أن هذه الطمأنينة التى قُذفت فى القلوب جراء انتخابات العاملين فى الخارج فيما يتعلق وعملية التزوير أو التلاعب، تُعكرها تلك الممارسات الإعلامية التى تحاول أن تُعلى دون استناد إلى الواقع من شأن مرشحى النظام السابق وتجعلهم فى صدارة المشهد الانتخابي.
والملفت هؤلاء الذين أنكروا نتائج هذه العينة الضخمة من المصريين واعتبروها غير معبرة عن اتجاهات الناخبين فى الداخل!، وكأنهم لا يصدقون ما أسفرت عنه نتائج أول استطلاع حقيقى للرأي، وليس تلك الاستطلاعات التى أبعد ما تكون عن أرض الواقع.
فانتخابات العاملين بالخارج بنتائجها المعلنة هذه تعكس بصورة حقيقية - حسب تقديري- اتجاهات الناخبين فى الداخل، وذلك لعدة أسباب:
أولاً: كبر حجم العينة بخلاف عينات استطلاعات الرأى التى أجرتها جهات حكومية وخاصة منذ بدء الماراثون الانتخابى وحتى الآن، التى لا تتخطى حاجز الخمسة الآلاف فرد.
ثانيًا: التنوع الذى حظيت به هذه العينة ففيها من يُقيم فى المجتمع الغربى بثقافاته المتحررة، وفيها كذلك من يُقيم فى دول الخليج ذات الثقافة المحافظة.
ثالثًا: التركيبة الداخلية لهذه العينة؛ إذ تضم بداخلها مختلف طبقات المجتمع المصرى من عمال ومهنيين ورجال أعمال ومثقفين وغيرهم.
رابعًا: درجة المعايشة من قبل العاملين بالخارج للواقع المصري، والتى ازدادت عما كان فى الماضى بسبب ما يشهده العالم حاليًا من تقدم تكنولوجى سهل كثيرًا عملية الاتصال بين العاملين بالخارج وذويهم فى الداخل، ومن ثم أصبحوا على مقربة من الأحداث فى الداخل، وبالتالى عدم وجود اختلاف بين توجهات المصرين فى الداخل والخارج.
وكذلك كشفت نتائج هذه العينة من المصريين أن ممارسات التشويه المستمرة لجماعة الإخوان المسلمين فى عدد كبير من وسائل الإعلام سواء المرئية أو المقروءة وحتى المسموعة، قد فشلت فى إحراز مهمتها، فرغم ما أُثير حول مرشح الجماعة الدكتور «محمد مرسي» من "سخرية" و"استهزاء" وتشبيهه بالاحتياطى للسيد «خيرت الشاطر» المرشح الأساسى للجماعة، إلا أنه حظى بنصيب الأسد فى انتخابات العاملين بالخارج، مما يؤكد أن الإخوان المسلمين أشبه بمكينة مؤسسية تعمل ليل نهار دون كلل أو ملل فى الداخل والخارج.
أضف إلى ذلك، أن تقدم الدكتور «مرسى» بهذا الشكل وفى عينة بعيدة من حيث المكان عن الأيادى المباشرة للإخوان المسلمين، يؤكد أن تقدم الإخوان قائم على اقتناع الناخبين بفكر ورؤية الإخوان فى إدارة البلاد للمرحلة المقبلة، وليس كما يروج البعض بأنهم يشترون الأصوات بالسلع الغذائية (السكر والزيت وخلافه) مثلهم فى ذلك الحزب الوطنى المنحل.
وأخيرًا تكشف نتائج انتخابات العاملين بالخارج عدم تقدم مرشحى النظام السابق (موسى وشفيق) بالشكل الذى تروج له وسائل الإعلام، وبالتالى عدم إمكانية وصولهم إلى جولة الإعادة، التى ربما تقتصر فيها المنافسة بين ثلاث (مرسى وأبو الفتوح وحمدين)، إلا إذا أرادت السلطة الحاكمة غير ذلك، ومعنى اقتصار المنافسة على هؤلاء أن الثورة قد نجحت فى تحقيق هدف يكاد يكون الأهم فى الأجندة الثورية، لأن وصول أيًا من هؤلاء (تيار التغيير) سدة الحكم فى مصر يعنى بداية مرحلة التغيير الحقيقية فى مصرنا الغالية.