قابلته لأول مرة ونحن متجهان إلى البوابة التى تصل بنا إلى المؤتمر، وما أكثر المؤتمرات فى هذه الأيام، كان واضحا أننى أعانى من الزحام، لذلك لم يثر دهشتى أن أجده إلى جوارى يضع ذراعه فى ذراعى ويقول مشجعا: سندخل معا، نظرت إلى وجهه بسرعة، لم أكن أعرفه، لم نتقابل، تخيلت أنه يعرفنى، شاهدنى على الشاشة أو فى ندوة أو فى مؤتمر مثل هذا، يحدث هذا أحيانا، ولكن الدهشة كانت من السن، عادة يتحدث معى الشباب قبل الثلاثين ويعبرون عن متابعتهم لبعض ما أكتب، هذا كان فى الخمسين أو أكثر.
بعد لحظات سألنى: من يكون الأستاذ؟ وتعجبت فهذه المودة التى أبداها لابد أن تكون لما قرأ أو سمع، وفى مثل هذه الأحوال أبتكر اسما أضلل به الآخر من باب المتعة، ولكننى فى هذه المرة ولا أدرى لماذا صرحت له باسمى، فتهلل وقال: أعرفك، وكنت أتمنى أن أقابلك، وهاهو الحظ الحسن أتى، لم أشكره على مشاعره، وسألته بفظاظة: وأنت من؟
قال لى: أنا المستشار الإعلامى فتحى زيدان المرشح لرئاسة الجمهورية.
بالتأكيد تعجبت من لقب المستشار الإعلامى، ولا أظنه مر على من قبل، ولكن ذكر أنه مرشح لرئاسة الجمهورية، مع علمى أنه ليس صحيحا، ما أثار اعتراضى: لكن باب الترشيح أغلق منذ ساعتين واسمك ليس فيه؟
رد علىّ بهدوء وثقة: ولذلك سأكون فى اللجنة غدا صباحا لأقلب الدنيا عليهم، تصدق يا أستاذ أنهم يريدون منى 30 ألف توكيل، طيب لو استطعت أن أحصل على ثلاثين ألف توكيل لماذا أترشح أصلا، ثم إنه قيل لى إن التوكيل يتكلف فى المتوسط 300 جنيه، احسبها من أين آتى بهذا المبلغ،، أنا يا أستاذ فتحى زيدان، لست مرشح الفقراء، لا أنا أكثر من هذا، أنا المرشح الفقير، هل لابد ألا يدخل الانتخابات إلا من يملك الملايين؟ أنا لو أملك مليونا فلن أدخل أى انتخابات، بل أشترى شقة وأقيم فيها ليل نهار آكل الجوافة والبلح الأمهات!
كنا دخلنا إلى المؤتمر ولابد من الابتعاد عن فتحى زيدان، لكنه اكتشف أننى أعرف الكثيرين، فتشبث بى وأخذ يدخل معنا فيما نتكلم فيه، كل ذلك وهو غالبا ممسك بذراعى، وأحسست بالحرج وهو يعرّف نفسه بالمرشح المحتمل، ويشير إلى أننى أعرف أنه فى صباح الغد سيثير ضجة كبرى لظلم لجنة الانتخابات.
واضطررت إلى أن أهمس للبعض بأنه ليس معى ولا أعرفه، ولكن نشاطه كان أكبر من همساتى، فبدأت أنفى معرفتى به علنا، وكان يسمعنى ولا يعلق ويستمر فيما أسميته «تجميع الأصوات»!
وأجلسونى فى الصف الأول، ورحبت بذلك رغم أننى أكره الصف الأول، لأنهم رفضوا جلوسه فيه، بتشيجع خفى منى، وجلس ورائى بصفين وأخبرنى بصوت عال أنه جالس هنا، وقصة الصف الأول هذه لها حادثة طريفة أحكيها لك بعيدا عن فتحى زيدان حتى نستريح منه قليلا.
عندما عُرض فيلم «ناصر 56» أثار ضجة كبيرة إلى حد أن لجنة التضامن المصرية أعدت تكريما لنا فى الأوبرا، وكنت أعرف أن الراحل الكبير أحمد حمروش لم يشاهد الفيلم لأن عرضه الوحيد آنئذ بدأ فى قاعة المؤتمرات فى الحادية عشرة مساء، وحمروش يكون فى سريره فى التاسعة مساء، أو فى العاشرة إذا كان هناك طارئ، وكان من أغرب ما حدث أن المسرح القومى تذكر الدور الهام الذى قام به حمروش فى بعث المسرح القومى ونهضة المسرح المصرى فى الستينيات فأقام له حفل تكريم يبدأ فى الثامنة مساء.
وكنا جمعيا نتساءل هل يحضر حمروش، فلما أتى، تساءلنا إلى متى يبقى، وفى التاسعة مساء وكما فعلت سندريلا فى القصة المشهورة اختفى واستمر الاحتفال بدون بطله.
على أى حال رفض أحمد زكى الذهاب إلى حفل التضامن الذى كان أول احتفال بالفيلم، وذلك لأن مخرجا كان ينوى تقديم فيلم عن جمال عبدالناصر قاد حملة هائلة بين جمهور مهرجان التليفزيون وخاصة من الضيوف العرب ضد الفيلم وضد أحمد زكى ونسب ما قاله من آراء إلى نقاد وفنانين.
ورأيت أن أذهب إلى أحمد زكى فى الفندق الذى كان يقيم فيه لأقنعه بأن يذهب معى إلى الحفل الأول، واتصلت ببعض الفنانين والنقاد الذين نسب المخرج إليهم آراءه، ونفوا بشدة ما نسب إليهم، وبعضهم اتصل بالمخرج وعنفه، وأحدهم حاول الاعتداء عليه فى مقر المهرجان فيما بعد، المهم أننى أقنعت أحمد زكى بأن يرتدى ملابسه ويأتى معى، واستغرق ذلك وقتاً، فوصلنا إلى قاعة الأوبرا وهم يشاهدون الفيلم أو جزءاً منه لا أذكر، أى أن القاعة كانت مظلمة، وتنبه بعضهم إلى وجودنا فحاولوا مساعدتنا للوصول إلى الصف الأول، وعارضت بشدة لأن حركتنا فى الظلمة ستسبب إزعاجا، وفى الحقيقة لكراهيتى للجلوس فى الصف الأول.
وعندما أضيئت الأنوار تنبهوا لوجودنا فقادونا من الصف الأخير إلى الصف الأول وسط التصفيق، قال لى أحمد زكى بعد أيام: كنت أظنك متواضعا، وكنت مندهشا لهذا، فجميع من أعرفهم تقريبا ذواتهم متضخمة، وعندما أجلستنا فى الصف الأخير قلت: يا له من متواضع كريم، لكن عندما انتقلنا إلى الصف الأول وسط كل هذا التصفيق أدركت أنك على العكس تماما!
وبالطبع كان أحمد زكى مخطئا فيما قال، فأنا لم أتخيل ما سيحدث.. أظنك عزيزى القارئ قد استرحت قليلا من فتحى زيدان وسيرة فتحى زيدان، ولكن علينا أن نعود إليه، فوجودى فى الصف الأول لم يجد شيئا، واستطاع فتحى أن يقترب منى وأعطانى بطاقته مكتوبا فيها: فتحى زيدان المستشار الإعلامى، والكاتب الصحفى، والمرشح لرئاسة الجمهورية وأرقام تليفوناته، وسألنى عن رقم تليفونى، ولأول مرة أفكر فى أن أعطيه رقما خطأ، وتلك حيلة تعلمتها فى صدر شبابى من زكى رستم ولم أنفذها أبدا، فلقد كنت جالسا فى كافتيريا فى شارع رمسيس زالت مع الزمن وكنت مع صديق صحفى رأى زكى رستم فجن جنونه لأنه يريد عمل لقاء معه، وكنت أعرف أنه لن يوافق، نصحته بألا يحاول، لكن الفكرة كانت جذابة جدا، فقام واعترضه وطلب منه عمل لقاء صحفى، فوافق مرحبا لكن بالطبع ليس الآن، فلابد أن ينصرف، وأعطاه رقم تليفونه وطلب منه أن يتصل به لتحديد موعد.
وعاد صديقى كأنه كتب افتتاحية الأهرام أيام هكيل ونصحته مرة أخرى أن يتأكد من الرقم، وذهب دون قلق إلى التليفون، وعاد مكفهرا فلقد كان رقما وهميا.
فكرت أن أعطى فتحى زيدان رقما وهميا على طريقة زكى رستم وكنت قد فكرت مرات أن أفعلها، ولكننى عجزت عن ذلك وهذا ما حدث أيضا مع فتحى زيدان.
وانتهى المؤتمر، ومضت أيام ولم يتصل بى فتحى زيدان، فعاد الأمن إلى حياتى، وكدت أنساه وإن كان لا ينسى، وفجأة وأنا فى السيارة رأيت إعلانا على حائط: فتحى زيدان المستشار الإعلامى رئيساً لمصر، وصورته مرسومة بلا دقة، لم أصدق ما أرى فلقد قرأت الصحف ولم يرد اسمه فى أى انتخابات.
ووسوس لى الشيطان كما وسوس للنائب بعمل عملية تجميل فى أنفه، ولكن هذه المرة كانت أسوأ، وسوس لى الشيطان بأن أطلب فتحى زيدان.
والله يا أستاذ كنت أريد أن أطلبك كل يوم تقريبا، ولكن الحملة الانتخابية هلكتنى، مثلا أنا الآن وأنت تشرفنى بالمكالمة فى كرداسة، نعم.. فى كرداسة، بنت أختى متزوجة هنا، وبالطبع هناك ناخبون كثيرون يريدون الحديث معى، ولقد وعدتهم بمؤتمر انتخابى بعد صلاة العشاء، وعلى فكرة كنت منذ أيام فى شبراخيت وجاء ذكرك والحاج عطية يرسل إليك السلام.
وأوقفت استرساله لأقول له إننى رأيت دعايته الانتخابية فى 6 أكتوبر فقال لى: ظننتك رأيت دعايتى التى فى الخلفاوى، إنهم مؤيدون كتر خيرهم يقدمون لى المعونة، عموما اطمئن أنا فى تقدم مستمر.
تساءلت بينى وبين نفسى كم أعرف من المجانين، وقررت حصرهم فى لستة.
وكنت قد فتحت بابا تمنيت ألا يفتح، فلقد اتصل بى بعد ذلك وقال لى إنه سيعقد مؤتمرا انتخابيا فى بين السرايات فى بيت الحاج فضل الساعة كذا يوم كذا.
حاولت الاعتذار لكن فتحى رفض أى اعتذار، وهذا برر لى ألا أذهب، وكنت فى غاية الخجل عندما اتصل بى بعد المؤتمر، وأنقذنى أنه بدأ بالاعتذار فالحاج فضل رفض المؤتمر، وكان الذى وافق ابنه هيثم، وعلى أى حال خيرها فى غيرها، هكذا قال فتحى زيدان.
وكلمنى بعد ذلك لائما: يا رجل أنا أعتبرك ناخبى الأول قبل أخويا ياسر وعمى عبداللطيف، وأكتشف أنك تؤيد حمدين صباحى، على كل حال أنا مؤمن بالديمقراطية.
واتصل بى مرة أخرى فى يوم الأربعاء وقد بدأت الانتخابات من ساعات، اعتذرت أننى لن أسمع له لأننى فى حالة صمت انتخابى، وهكذا يجب أن يكون هو أيضا.
يا أخى لدى خبر يفرحك، أردت أن تعرفه، لقد حصلت حتى الآن على 12 صوتا!!
نفد صبرى..
يا أخى فتحى: الانتخابات بدأت.. ولكن فرز الأصوات لم يبدأ بعد، لعلك حصلت على أصواتك الـ12 فى سويسرا، هذا شىء، والأهم أنك لست مرشحا أصلا، دام الصمت فترة قبل أن يتكلم بأسى.
كنت أتخيل أنك تفهمنى، فأنا مرشح على هامش الانتخابات، وأريد أن أثبت أننى قادر على المنافسة، وإذا كنت غير مقيد بسبب تعسف نظام الانتخابات وحصلت فى الساعات الأولى على 12 صوتا ألا يدل هذا على شىء؟ تقول الفرز لم يبدأ، أنا مالى ومال الفرز، لقد قابلت 12 شخصا وعدونى أنهم سيعطونى أصواتهم، وأنا أصدقهم، سترى دوى هذا عندما ترى اللجنة المستبدة 12 صوتا باسم فتحى زيدان.
عزيزى المواطن أتمنى ألا تكون أعطيت صوتك لفتحى زيدان!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
/ مـاهر
أحسن من الموجودين
عدد الردود 0
بواسطة:
د خالد على
مقال رائع استاذنا
عدد الردود 0
بواسطة:
باسم منير
ياعم أيه اللى انت كاتبه دا كله
ابقى اختصر في المقال عشان الدنيا حر !!