د. محمد محسوب

ثمانية عشر يوما لإسقاط النظام وعشرون عاما للنهضة

السبت، 26 مايو 2012 05:19 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ذكرتنى الحملة الانتخابية وما صاحبها من نقاش واسع وحاد بين أطياف المجتمع بما شهدته مصر خلال عامين ما بين سنة 1805 وسنة 1807؛ فخلال هاتين السنتين جرى صراع بين القوى الوطنية من جهة وقوى السلطة التقليدية الموالية للدولة التركية وقوى التغريب الموالية للغرب من جهة أخرى على تسمية والٍ لمصر؛ والتى انتهت بفرض الشعب المصرى لاختياره محمد على واليا.

غير أن المذهل أن الشعب المصرى ما إن فرض وجهة نظره بتسمية الوالى الذى اختاره حتى تحولت مقاديره خلال السنوات العشرين التالية؛ فتغير المركز القانونى لمصر من ولاية إلى دولة؛ بل تغير مركزها الدولى لتصبح واحدة من أهم القوى الدولية وقتها؛ فبدأت مسيرتها بمواجهة غزو إنجليزى سنة 1807 قاده الجنرال فريزر باتفاق بعض الخائنين بقيادة الألفى، وتمكن الإنجليز من احتلال الإسكندرية بخيانة محافظها أمين أغا، لكن أهل رشيد أذاقوهم مر الهزيمة بقيادة محافظ رشيد الوطنى «على بك السلانكلى»؛ ثم أُرغم الإنجليز على الانسحاب من الإسكندرية.

ولم تكد تمر عشرون سنة، حتى كانت مصر طرفا فى اتفاقية إنهاء حرب اليونان فى أغسطس 1828 مع دول التحالف الغربى وتركيا، ومهر أول وزير لخارجية مصر بوغوص باشا الاتفاق بتوقيعه ليكون إعلانا عمليا، ليس فقط باستقلال الدولة المصرية الحديثة واكتمال سيادتها، وإنما قبل ذلك هو إعلان دولى بأن مصر أصبحت طرفا فى معادلة الدول الكبرى التى لا يمكن تجاوزها فى العلاقات الدولية.

ولم يكن الغرب المتحفز والمتربص للدولة الشابة أن ينجح فى حصار مصر وتقليم أظافرها لو استمرت مشاركة الشعب المصرى فى صنع مصيره وفى اتخاذ القرارات الهامة، كما كان الأمر عليه منذ 1807؛ غير أن حيدة محمد على عن هذا النهج، وميوله الاستبدادية وانعزاله عن الزعامات الشعبية جعلته وحيدا فى مواجهة تحالف دولى مهيب فرض على مصر حدودا لتطورها منع نهضتها من الاكتمال بموجب اتفاقية لندن سنة 1840.

إن العبرة التى يجب أن نتذكرها اليوم أنه فى ظل الصراع الانتخابى ربما يغيب عن البعض أن الشعب المصرى هو الذى يسعى أن يفرض رئيسه لأول مرة منذ تلك اللحظة التى اختار فيها محمد على؛ وهو يفعل ذلك الآن بعد ثورة شعبية رائعة أفصح فيها أنه أصبح عصيا على الاستبداد والقهر، وأنه لن يتنازل مرة أخرى عن حريته وعن حقه الأصيل فى المشاركة الدائمة فى صناعة القرار وصناعة الرؤساء وصناعة التاريخ.

وأشعر أن الشعب المصرى قرر أخيرا أن يستكمل ما نقص من عناصر نهضته، وهو حريته وحماية حقوقه بما يجعله فاعلا فى عملية التطوير وإدارة الدولة وصناعة النهضة، فخلافا عن الحالة التى عاشتها مصر عند اختيار محمد على، فإن الاختيار اليوم إنما يتم فى ظل ثورة جعلت انعزال الحاكم أيا كان عن شعبه أشبه بحكم إقالته من منصبه؛ كما أصبح تحول الحاكم إلى الاستبداد أمرا مستحيلا فى ظل منظومة الاختيار الديمقراطى وفى وجود شعب تعلم كيف يسقط مستبدا ويقيم رئيسا لا يجوز له أن يعتقد فى نفسه أنه زعيم أو أنه مصدر قوة شعبه أو مصدر الخير؛ وإنما هو حاكم موظف يتقيد بحدود وظيفته.

كما أن اختيار الشعب لحاكمه هذه المرة لا يأتى استنادا إلى أنه ملهم أو لأنه قائد أو لأنه زعيم أو لأنه يملك مفاتيح التقدم، وإنما لأنه مرشح ضمن آخرين وسيكون موضع اختبار ومراقبة، وبعد سنوات قليلة سيواجه الشعب مرة أخرى ليقر سياساته أو ليغيره؛ وذلك ما لم يقم الشعب بتغييره قبل ذلك بثورة عرف الشعب طريقها إن مال هذا الحاكم أقل ميل للاستبداد والتعسف، ولم تعد النهضة حلما يأتى بها فارس على جواد أبيض، وإنما أضحت نتاجا لمجموعة من العوامل، أهمها شعب يقظ يعيش فى أجواء تسمح له بالابتكار والعمل الجاد ومراقبة حكامه ومساءلتهم؛ وحكومة تنفذ اجتهاداتها غير المنزهة عن النقد والعيوب، ففى ظل هذا الفهم يصبح كل اجتهاد خطوة على طريق النهضة، ويصبح تغير الحكومات مجرد بحث مستمر عن الأفضل.

إن تغيير الدولة المصرية لمركزها الإقليمى والدولى للأفضل وإحداث نهضة اقتصادية واجتماعية لم يعد أمرا بعيد المنال طالما تحقق له أهم شرط وهو الحرية وقدرة الشعب على أن يفرض اختياره مهما تحدثنا عن شوائب وعن إخلالات وعن تلاعب؛ فإن القيمة الكبرى تكرست ولم يعد أحد أو مؤسسة أو فئة أو جماعة قادرة على المساس بها، وأنا أحذر من يحمل عقلية الماضى أن يتعامل مع هذا الشعب بعقليته ولا يمس تلك القيمة التى تشمل ثلاثة عناوين كبرى: عيش وحرية وعدالة اجتماعية؛ فهو إن فعل فسيصدمه الشعب برد فعله الذى لن يقل بحال عن ثورة الأيام الثمانية عشر، وإنما سيكون حسابه فى هذه المرة أشد قسوة من ساكن المشفى على طريق الإسماعيلية الصحراوى.

وأتوقع أن يبدأ سريعا بعد الانتخابات الرئاسية وقف النزيف المتواصل فى الأمن والاقتصاد والقيم، والذى أفرزته فترة انتقالية طويلة ومملة ومرتبكة؛ ورغم أن تطورا كبيرا لن يطرأ على الأداء الاقتصادى قبل مرور سنة على الأقل، فإن تحسن الأداء الاقتصادى سينشأ عن ثقة الشعب والمؤسسات بالمستقبل وعن قناعة تزايدت لدى أنصار النظام السابق وأصحاب العقليات القديمة أن المصريين لن يعودوا للخلف أيا كان اختيارهم للموظف الرئيس؛ فسيتوقف الفساد وسيستمر التوجه نحو تأكيد رقابة الشعب على كل عناصر الميزانية بما يشمله ذلك من أموال الصناديق الخاصة وميزانية الرئاسة وميزانية القوات المسلحة.

كذلك فإننى أتوقع أن إعادة النظر فى بنود الميزانية سيكشف عن الخلل الحاصل فى توزيع موارد الدولة، ومن ثم إعادة ترتيب النفقات بما يسمح بتوفير موارد لمواجهة حقوق مستحقة يجب إشباعها وعلى رأسها تحقيق العدالة بشأن مرتبات العاملين بكل فئاتهم ومواجهة ما يستلزمه إصلاح سريع للخدمات العامة ابتداء من النقل والتعليم والصحة وغير ذلك، وانتهاء بتهيئة شبكة الطرق فى طول البلاد وعرضها لاستقبال أى برنامج يطرحه أى أحد أو فصيل لإحداث نهضة متوازنة تشمل الجنوب والشمال والشرق والغرب، فالدولة المصرية العائدة بكل جهوياتها ومحافظاتها أصبحت جسدا وطنيا واحدا ولن تقبل إلا أن تكون كيانا اقتصاديا متماسكا ومتوائما دون إهدار لعضو أو إخلال بعدالة توزيع عوائد التنمية.

والخلاصة أنه أيا كانت النتائج فإن مصر لن تعود إلى الوراء، بل على العكس من ذلك، فإن فرض الشعب لاختياره سيجعلنا قريبين جدا من إحداث النهضة التى سنشعر بآثار الحركة نحوها ابتداء من العام القادم، وإن كانت نتائجها الجوهرية ستظهر تباعا على مدار السنوات العشرين القادمة.








مشاركة

التعليقات 4

عدد الردود 0

بواسطة:

مصطفى

ماذا؟؟

عدد الردود 0

بواسطة:

أبو أحمد

كلامك عاقل وموزون ... ياريت تنضم لبرنامج الفريق شفيق

عدد الردود 0

بواسطة:

احمد

والله انت بحق راجل فاهم

عدد الردود 0

بواسطة:

ابو روان

مصر فوق الأيدولوجيه

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة