لا أحد يملك الحديث باسم الشارع المصرى.. تلك هى النتيجة الوحيدة الواضحة وغير المرتبكة ضمن مجموعة النتائج التى تمخضت عنها أو انتخابات رئاسية حقيقية وصلت إليها مصر بفضل ثورة 25 يناير.
النتائج النهائية لانتخابات الرئاسة خسفت بكل التحليلات والآراء السياسية الأرض، فلا يمكنك وأنت تنظر إلى الأرقام والنتائج أن تصدق هؤلاء الذين قالوا أن الشعب هواه سلفى وإخوانى، أو أن الشعب فلول وحزب كنبة يحب جلاديه ويحن إلى زمن عبودية مبارك، وفى نفس الوقت لا يمكن للقوى الثورية أن تعود للهتاف الشهير.. الشعب يريد..
النتائج النهائية لانتخابات الرئاسة التى وضعت محمد مرسى مرشح الإخوان فى مواجهة أحمد شفيق، سليل زمن نظام مبارك فى مرحلة الإعادة، تمنحك أبعادا مختلفة عن تلك المتعارف عليها، وتمكنك من إعادة رسم خريطة مصر السياسية من جديد، فلا يمكنك بأى حال من الأحوال أن تتهم الشعب المصرى فى شرفه السياسى، أو تصفه بالسلبية لأن نسبة التصويت التى تقترب من %50 فى أول ممارسة ديمقراطية حقيقية تصنع دولا ديمقراطية مثل الولايات المتحدة، افرح حينما تتخطاها بنسب قليلة.
كل هذه الهالة من القوة والقدرة على الحشد التى كنا نضعها حول رأس جماعة الإخوان خفتت أو تحتاج إلى المراجعة بعد حصول الدكتور محمد مرسى على عدد أصوات بلغ 5 ملايين و663 ألفًا و654 صوتاً فقط لا غير، وهو رقم يبدو غير مناسبا لحجم الجماعة التى تسيطر على البرلمان، وتملك التنظيم السياسى الوحيد المتماسك فى مصر، وغير مناسب أيضا لما تم إنفاقه أو حشده من سلاسل بشرية ومؤتمرات للترويج ودعم الدكتور مرسى، خاصة إذا ما تمت مقارنة كل ذلك بما حققه كل من أبوالفتوح وحمدين صباحى منفردين بدون أى تيارات أو تنظيمات سياسية قوية تقدم لهما الدعم، كما كان الحال مع الدكتور مرسى.
حمدين الذى يعمل منفردا ويمثل تيارا سياسيا ظن البعض أنه انقرض، نجح، وحصل على 4 ملايين و403 آلاف و533 صوتاً، وأبوالفتوح الذى خرج طريدا من الجماعة وحاربه الإخوان بكل قوة وخاض السباق بدون دعم تنظيمى واضح حقق 3 ملايين و978 ألفاً و572 صوتاً، وهى أرقام، إن نظرت إليها بعمق ستدرك أن تيارا سياسيا جديدا يتشكل فى مصر، إن تم العمل على تنميته من جانب المرشحين أبوالفتوح وحمدين، ستكسب مصر قوة سياسية هائلة قادرة على موازنة الأمور مع تيار الإسلام السياسى الصاعد، ومع تيار بواقى الحزب الوطنى الذى كشفت الانتخابات أنه مازال قادرا على العمل بقوة.
جمع عدد الأصوات التى حصل عليها أبوالفتوح وحمدين يكشف لك بعدا آخر أكثر أهمية يتعلق بعلاقة الشعب المصرى بثورة 25 يناير، فعلى عكس ما يروج المروجون بأن المصريين كرهوا الثورة وأحداثها، وأن الشعب أغلبه ينتمى إلى «حزب الكنبة» وبواقى الفلول، فإن عدد هذه الأصوات مجتمعة يصل إلى ضعف ماحصل عليه أحمد شفيق 5 ملايين و400 ألف و885 صوتا، وربما يزيد إن حذفنا من الأصوات التى حصل عليها أحمد شفيق، الأصوات التى حشدتها بقايا الحزب الوطنى، معتمدين على إخافة الناس وأصوات هؤلاء الذين شعروا بإهانة بالغة من إرهاصات بعض الشباب الجهلاء الذين تم تصديرهم، للحديث باسم الثورة فخصموا من رصيدها بغطرستهم وقلة فهمهم، بالإضافة إلى أصوات أخرى، أفهمها البعض أن شفيق مرادف لكلمة الاستقرار التى يبحثون عنها.
هذا ما تقوله الأرقام.. وفى أغلب ما تقوله الأرقام معان إيجابية ومبشرة بمستقبل مختلف، ولثورة كاد البعض أن يبخسها حقها، ولكن تبقى كلمة أخرى أو نتيجة أخرى لهذه الأرقام.. نتيجة قاسية ومربكة تتولد منها معادلة أكثر صعوبة وأكثر نشرا للحيرة وللارتباك فى أرض سياسية لا ينقصها المزيد..
النتيجة التى تطرحها أرقام التصويت فى الانتخابات الرئاسية تقول إن مصر بعد حوالى 20 يوما من الآن، مطالبة بالاختيار بين أحمد شفيق بما يمثله من تراث ينتمى إلى نظام مبارك بفساده وظلمه ويده الملوثة بالدماء والمعتقلات وقمع وكبت الحريات، والدكتور محمد مرسى مرشح جماعة الإخوان بما يمثله من جماعة تسعى باستحواذها على الرئاسة والبرلمان والنقابات والمحليات أن تكون امتدادا للحزب الوطنى الذى كان يتسمتع بالتكويش على السلطة جميعها، أو بمعنى آخر المصريون مضطرون للاختيار بين صاحب صاحب مشروع النهضة، وصاحب صاحب الضربة الجوية، أو بصورة أخرى نحن مضطرون للاختيار بين شفيق الذى بينه وبيننا دماء شهداء وموقعة جمل، ومرسى الذى لم تنجح جماعته التى استحوذت على البرلمان فى استرداد حقوق هذه الدماء أو منعها من الفيضان فى شوارع مجلس الوزراء ومحمد محمود.
الاختيار هنا، ورغم كل الإضافات أو الحسابات المطروحة، يبدو محسوما أو لابد أن يكون كذلك، حفاظا على ثورة شعب معرضة للوفاة إذا أصبح أحد رجال حسنى مبارك قيما عليها، أنت مطالب بأن تفعلها على طريقة عبدالسلام النابلسى فى فيلم شارع الحب، وأنت مغمض العينين ومغلق الأنف وتتوكل على الله وتدعم مرشح جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسى.. ولكن توقف لحظة.. أنا لا أتكلم عن دعم وتأييد على بياض، أنا أتكلم عن دعم مشروط يحقق مصالح الوطن والثورة وليس مصالح جماعة الإخوان ومرشحها.
دعم القوى الثورية والحركات السياسة والشارع لمرشح الإخوان لابد أن يكون مقترنا بعدد من الشروط والضمانات التى تمثل درعا واقيا للثورة ولهذا الوطن ولحق تداول السلطة والحريات ضد رغبات الجماعة فى الانفراد بالسلطة والاستحواذ على كل شىء، أو بمعنى آخر لابد أن يكون هذا الدعم مشروطا بشروط تضمن عدم تراجع الإخوان عن الوعود، مثلما حدث مع وعود مشاركة لا مغالبة، وعدم ترشيح رئيس جمهورية، التى رفعتها الجماعة تحت شعار التوافق ولم الشمل مثلما يحدث الآن ثم تراجعت عنها مع أول تطبيق حقيقى على أرض الشارع.
تغليب منطق «أنا وابن عمى على الغريب» الذى تبحثه القوى الثورية الآن من أجل دعم مرسى فى مواجهة شفيق، أمر واجب، ولكن لابد أولا أن يقدم ابن العم هذا كل الضمانات الكافية لتحقيق مبدأ المشاركة، والضمانات المتاحة لا تتعلق فقط بالدعوة الخاصة بتعيين أبوالفتوح وحمدين نائبين لمحمد مرسى، فالمطلوب من الإخوان ضمانات أكبر من مجرد دعوة تبدو مثالية.
المطلوب هنا هو خطة جديدة من القوى الثورية لضمان الخروج من مأزق عودة نظام مبارك، وأول بنود هذه الخطة يتعلق بالضمانات التى يجب أن تقدمها الجماعة لهذه القوى السياسية، وأول هذه الضمانات هو الدستور، وأن يعتذر الإخوان عن نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية التى حولوها إلى معركة دينية ربحت فيها كلمة «نعم» التى نعيش بسببها الآن كل هذا الجحيم السياسى.
المطلوب من الإخوان أن ترتخى قبضة برلمانهم عن الجمعية التأسيسية للدستور ويتركوا العنان للقوى السياسة المختلفة عبر تشكيل عادل لكل الأطياف السياسية لكتابة دستور حقيقى وقوى لمصر يضمن فيه الجميع عدالة توزيع السلطة وعلاقات أكثر تنظيما بين السلطات، وحريات للجميع لا قيد فيها ولا شرط ولا غلبة فيها لوجهة نظر تيار أو جماعة على وجهات نظر فئات أخرى داخل المجتمع.
العودة إلى مبدأ المشاركة لا المغالبة مطلب وضمانة أخرى لابد أن توفرها الجماعة خاصة أثناء تشكيل الحكومة الجديدة قبل الحصول على دعم الجميع فى موقعة الإعادة القادمة، أيضا لابد أن تقدم الجماعة الضمانات الكافية لفصل واضح وصريح بين الجماعة وحزبها السياسى، وتوضيح علاقة محمد مرسى بمجلس شورى الجماعة والمرشد العام، فلابد أن تعرف القوى السياسية أو تملك دلائل واضحة قبل تأييد مرسى على أنه سيكون رئيسا لمصر وليس مندوب الجماعة فى قصر الرئاسة، أيضاً على الجماعة مراجعة مواقف قيادتها التى تعرضت بالإهانة للثورة وشبابها ووصفت التيارات السياسية الأخرى بالعلمنة والكفر وروجت إلى أن التيارات الليبرالية واليسارية كانت تهدف للعنف وتخريب البلد.
تلك هى الخطة.. خطة التوافق التى فشلت الإخوان والقوى الثورية فى الالتفاف حولها طوال الشهور الماضية، حتى وصلنا إلى المرحلة التى لم يعد فيها أى خيارات سوى الالتفاف حولها، مجبرين لمواجهة خطر عودة نظام مبارك بكل عيوبه، وتلك هى الضمانات التى يجب أن تتعهد بها الجماعة لمواجهة خطر شفيق الذى سيطول مصالحها ومكاسبها بعد الثورة قبل أن يطول الثورة نفسها.
لحظة الإعادة فى انتخابات الرئاسة فارقة.. إما أن يخوضها الجميع بوفاق تام، ويتنازل قبل الإخوان عن نعرات صبحى صالح وصفوت حجازى الانفرادية والانعزالية، وإما سنجد أنفسنا وجها لوجه أمام أحمد شفيق وأمام ثورة تضيع، ونظرة سماوية صعبة من شهداء يلعنون اللحظة التى تخيلوا فيها أن أرواحهم صعدت للسماء تاركة خلفها رجال بشنبات.