د. بليغ حمدى

المَشْهَدُ السِّيَاسِى فِى مِصْرَ

الأربعاء، 13 يونيو 2012 10:31 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مصر باختصار يمكن اختزالها فى ثلاثة مشاهد قصيرة، تشكل ثلاثية أبعد ما تكون عن ثلاثية نجيب محفوظ لما يعترى المجتمع المصرى الآن من إحداثيات لا تسير بخطى ثابتة، بل هى أشبه بقفزات الكينجارو السريعة والتى لا يستطيع متكهن أو عراف التنبؤ بمكان القفزة المقبلة. لاسيما وأن الطريق وعر وغير ممهد، والمشاهد الثلاثة أبطالها معروفون للقاصى والدانى، المجلس العسكرى، والإسلاميون أو أنصار الإسلام السياسى حتى ننفى صفة الدين عن هؤلاء، والليبراليون ومن فى حوذتهم من ثوار وبقايا الفلول الشرفاء وملايين المنتمين لحزب الكنبة الصامتون سابقاً. فمشهد المجلس العسكرى يفى باختصار عن تصريحات إعلامية بجدية تسليم السلطة لحكومة ونظام مدنى طبيعى وذلك بعد الانتهاء من وضع دستور جديد للبلاد رغم أن هناك دولاً أكثر مدنية لا تعمل بالدستور ولكن فى حالتنا المصرية الحصرية غدا الدستور أهم من لقمة العيش وأنبوبة البوتجاز وتعيين العاطلين رواد المقاهى ومنتديات الأنترنت. وفى الوقت نفسه يرى المجلس العسكرى أنه يحمل مسئولية وطنية وقومية وهى الحفاظ على مقدرات هذه الأمة وإدارة شئون البلاد والعباد حتى الوصول بهما إلى بر الأمان.

والمجلس العسكرى يرى فى بقائه بسدة الحكم حتى تشكيل الدستور ضرورة وأمانة، رغم أنه يفطن ويعلم أن مصر بطبيعتها الرافضة قد لا تعينها فكرة وجود دستور، ولولا الثورة وهوس الفضائيات التى تناولت موضوع الدستور وصياغته ولجنته وأعضائه لما انتبه الشعب المصرى أساساً إليه، لاسيما وأنه من المنطقى جداً أن يتم تعطيل العمل بهذا الدستور الوليد بقرار رئاسى أو بفعل حرب تخوضها البلاد أو إعلان حالة الطوارئ من جديد لأى سبب.

وحقيقة واضحة أن مصر متعطشة لمشروعات وبنى تحتية جديدة ومرافق بدلاً من التى تقوضت بفعل ما يحدث فى برها الآن، ومجرد اكتفاء المجلس العسكرى بالجدل السياسى والقانونى والدستورى لم يعد كفيلاً بإقناع هذا الشعب الذى لم يعد يكترث بالمشهد السياسى قدر اكتراثه بحياته واقتصاده وأمنه، وليس من الضرورى أن نعلق مستقبلنا بوجود رئيس أو حكومة منتخبة أو برلمان فقد كافة صلاحياته الرقابية والتشريعية حتى غاب عن المشهد السياسى تقريباً، هذا باختصار ما يريده المواطن من قصة المجلس العسكرى فهو قد مارس حريته بالفعل من خلال الثورات والاعتصامات والإضرابات والعصيان المدنى، والديموقراطية أصبحت مشهداً ملموساً فى حياته، وكل ما يتبقى لديه من مطامح الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية وعودة الأمن والاستقرار لحياته. ولابد أن يعى المجلس العسكرى تماماً وغيره من القوى المدنية الأخرى أن مصر الآن باتت غير مؤهلة لسماع أو تقبل أية رؤى أيديولوجية نظرية تبعده بمسافات واسعة عن واقعه المعاش.

أما المشهد الثانى فيمثله قصة التيارات الدينية التى صعدت نحو المشهد السياسى واعتلته بقوة جنونية وبدأت تهوى بنفس السرعة لأسباب متباينة منها ما هو خارج عن إرادة أحزاب وفصائل الإسلام السياسى، ومنها ما هو من داخلها بفضل تصريحات أو شعارات أو تصرفات اصطدمت برأى الشارع المصرى. فتلك التيارات لابد وأن تعترف بأنها خسرت معركة الظهور والتواجد الشرعى بين المصريين منذ الجلسة الإجرائية الافتتاحية لبرلمان الوطن، وباتت تخسر كل يوم وليلة شبراً جديداً لها على أرض المحروسة لأنها باختصار ظهرت بمظهر المغالب للسلطة والمقتنص للفرص المواتية التى تأتى بها ريح المشهد السياسى.

ووضح الأمر أن تلك الفصائل السياسية ذات الصبغة الدينية تفتقد إلى منهج واضح وخطة براجماتية للنهوض بهذا الوطن، فالقصة مكرورة وأصبحت مملة لإعادة صياغتها بعبارات جديدة، التواجد على استحياء ثم الدخول فى تفاصيل هامشية واعتلاء السلطة والمنصب ومن ثم تحقيق مطامع ومطامح تخص الفصيل بعينه دون الاهتمام بالشأن العام.

وكادت البيانات والخطب التى تصدر عن هذه الفصائل لا تخرج عن قضايا فقهية حسمها الشرع منذ قرون، وهم لا يزالوا يفكرون بمنطق الفاتح لبلد تعيش وثنية متأخرة، ولم يعد يكفيهم ما يرونه على أرض مصر من مظاهر دينية كفيلة بحسم قضاياهم المزعومة سوى أنهم يؤكدون كل عشية بأنهم يحملون خيراً لمصر، ويبدو إما أن هذا الخير ثقيل جداً لدرجة عدم حمله، أو أننا من وجهة نظرهم لا نستحق هذا الخير.

وخير دليل على رتابة هذا المشهد أن المجتمع المصرى أصبح أكثر وعياً فى إعلان رفضه لتلك التيارات التى لم تصاحبها خططاً مستقبلية سواء تجسد هذا الرفض فى أحذية مرفوعة أو هجوم مباشر باللفظ والكتابة والنقد لتلك الفصائل التى استمرأت حق الرأى والحل والعقد.

وأخيراً المشهد الثالث الذى لم تكتب له نهاية بعد، وهى قصة الليبراليين والجيوب السياسية والمجتمعية الخارجة منها، وأولئك اكتشفوا فجأة أن لهم دوراً بجانب المجلس العسكرى والتيارات الدينية يمكنهم المشاركة فيه. وإن كان دورهم بعض الشئ لا تعدى الإشارات النقدية للقصيتين السابقتين، مع وضع بعض الديكورات اللفظية حول دورها المفترض كالحراك السياسى، وفرضية الدستور، ومدنية السلطة، والفصل بين السلطات وغير ذلك من المواضعات السياسية التى مكانها المعاجم المتخصصة والتى لا تعد الشعب بشئ يذكر.

وهؤلاء ارتفعت أصواتهم داخل قصتهم بعد حالة الخفقان التى انتابت القوى والفصائل السياسية الدينية، ولولا هذه الحالة ما وجدنا لهذه القصة صدى بالمشهد السياسى، وعليهم أن ينتبهوا جيداً للأحداث قصة التيارات الدينية وما آلت إليها من انتفاء للحبكة القصصية ولغياب دور الشخصيات الرئيسة بها، ومن ثم تفادى هذا القصور عن طريق الوجود الفعلى فى الأحداث السياسية مع وضع خطة عاجلة للبلاد للخروج من أزماتها التشريعية والرقابية والدستورية، لأن هذه الأزمات انعكست بصورة مباشرة على حالة المواطنين اليومية.

ونحن بصدد الحديث عن المشاهد الثلاثة التى تجسد حالة مصر السياسية لا ينبغى علينا أن نتغافل عن القارئ بوصفه العنصر الأساسى والرئيسى للحكم على مدى جودة أو ضعف هذه المشاهد، هذا القارئ هو المواطن الذى لم يعد مواطناً عادياً أو بسيطاً، فهو الذى سمح للمجلس العسكرى أن يدير شئونه منذ سنة، وهو الذى دفع بالتيارات الدينية نحو اعتلاء سدة السلطة التشريعية، وهو الذى يقيم مليونيات تعبر عن رفضه لأمور تعكر صفو حياته، فاحذره.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة