«أمتع ما فى الكتابة أن الكاتب يحب ما يكتب»، فلماذا أكرهها؟ لأنه دخلها شفيق ومرسى، ولا أستطيع أن أخرجهما من الأوراق فلقد سقطا عليها مثلما تسقط العفاريت فى الأساطير، كنت أتوقع واحداً نحبه، ولو قليلاً، وواحداً لا نكرهه ولو قليلاً، أى عذاب نحن فيه؟! أتمنى أن أكتب فى شىء آخر، ولكن يا صديقى هل نستطيع؟ لألف عام سنظل نذكر أن ما أفسد علينا تجربة الديمقراطية «رجلان اتفقا علينا واختلفا معاً!».
تغيرت الأحوال تماماً..
قبل عام ونصف وأكثر كنا نحلم برئيس جديد، ولا نستطيع أن نحكى لأحد حلمنا، وبعض المعارضين كانوا يجرؤون على أن يتحدثوا عن رئيس آخر، فلقد قرّ فى الوجدان أن حسنى مبارك سيظل رئيساً لمدى الحياة، والمقصود بمدى الحياة هو حياتنا نحن بالطبع، وصاغ الشعب المصرى - كعادته - هذا فى نكتة شاعت تقول إن حسنى مبارك ظهر على التليفزيون فى عام 2050 وأخذ يؤنب الناس على الشائعات التى يطلقونها: قعدتم تقولوا التوريث وإن جمال مبارك جاى رئيس، أهو جمال مات الله يرحمه ولسه الأمور زى ما هى!!
وإذا كنت من المعارضين ودخلت مناقشة لقيت ما لا يرضيك، إذا ذكرت رغبتك فى أن ترى رئيساً جديداً، فستجده - أقصد أخانا بتاع النظام - يبتسم لك فى لطف شديد وثقة عميقة: وهل هناك من يصلح لهذا المنصب، وربما فكر المعارض فى أن هذا الشعب فيه ثمانون مليونا من جميع أطياف البشر، وأنه بالتالى فيه على الأقل ألف شخص يصلحون للمنصب، لو أنك قلت هذا، تزداد الابتسامة اتساعاً: طيب اذكر اسماً!
- صلاح الدين الأيوبى.
يصرخ أخونا بتاع النظام:
- يا راجل أتقبل أن يتولى أمرنا رئيس كردى، هل عدمت مصر الرجال حتى ترشح رئيساً كردياً؟!
- أحمد عرابى!
- نهار أسود هل تريد لنا الهزيمة، لقد حارب عرابى الإنجليز وهُزم، وكان أن دخل الاستعمار إلى البلاد.
تقول له: إن عرابى لم يهزم لعدم مقدرته ولا ضعف عزيمته، بل لأن الخديوى توفيق ونظامه خانه، وأن لو كان بديله نابليون بونابرت أو الإسكندر الأكبر لهزم.
يحدثنا عن ثقافة الهزيمة، وأنه آن لنا ألا نرضى بسوى النصر بديلاً، خاصة بعد الضربة الجوية.
ولا أريد أن أستمر فى هذه المناقشة فلقد كانت دائماً تحرق الدم، وتنتهى إلى أن الله سبحانه وتعالى راض عنا لأنه اختصنا برئيس تحسدنا عليه كل بلاد العالم، المهم أنه فى النهاية لا بديل، وأنك محسود على وجوده لا اختياره، فاختياره يعنى الفعل البشرى، ولكن وجوده يدل على الفعل الإلهى.
فإذا ذكرت الابن، قطب صاحبنا جبينه وقال: أنا شخصياً أختلف مع الرئيس فى هذا، فهو يرفض الفكرة تماماً، أما أنا فأرى إعطاءه الفرصة مثل بقية المصريين!
وتنتهى المناقشة بأن محمد حسنى مبارك سيظل رئيساً لألف عام، وأنه لا يصلح للمنصب غيره.
تغير هذا تماماً مع موعد الرئاسة الأول حيث ترشح ثلاثة عشر.. وكنا لا نجد شخصاً واحداً! نصفهم أو حول ذلك أخذوا الأمر جداً، ونصفهم الآخر ربما رأوا فى الأمر وجاهة.
وعندما كنا نلتقى نحن حزب الكبنة سابقاً، حزب الجهاد بالتليفون حالياً، كنا نتحدث عن مزايا هذا ومزايا ذاك، وحيرتنا فى الاختيار، وكان معظم من أتحدث عنهم لهم مرشح وآخر احتياطى له.
ثم جاءت انتخابات الإعادة، ليحدث ما لم يخطر ببال أحد، وهو أن الأغلبية العظمى ضد المرشحين، طيب، كيف أتيا؟ ألم يأتيا بالانتخاب؟ هذا صحيح، ولكن الانتخابات أحيانا تأتى بمن لا نريده، وفى الانتخابات النقابية كان يحدث شىء كهذا، إذا كنا ندخل إلى الانتخابات وهناك من نريدهم بشدة، وهناك من لا نريدهم بشدة، وفى غالب الأمر نريد إبعاد من لا نريدهم، فينجح صنف آخر لا نريده ويسقط من كنا نريدهم بشدة.
وإذا كنت مارست الانتخابات النقابية فستدرك ما أقول، وإذا لم تكن فستعجب مما أقول.
المهم أننا فى النهاية أمام مرشحين أحلاهما مر، وأنه علينا أن تختار بين الكوليرا والطاعون، مع أن أى إنسان يخاف الكوليرا والطاعون، وأحد أعضاء حزب النضال بالتليفون قال لى إنه لن يقاطع الانتخابات، وأنه سيذهب إلى اللجنة ويمارس كل طقوس الانتخابات، لكنه سيكتب على ورقة الانتخابات: لا أستطيع أن أنتخب الكوليرا، ولا أستطيع أن أنتخب الطاعون، وقد روّج لفكرته، فأضاف إليها آخر: وأين الدستور؟! وأضاف آخر سباباً فى المطلق من باب الرغبة فى الارتياح.
فى الحقيقة هى حالة نادرة فى الانتخابات، ففى الغالب يرى مجموعة أن فلانا هو الأفضل أو على الأقل هو أفضل من الآخر، ومجموعة أخرى ترى العكس، وهامشى صغير فى غالب الأمر لا يزيد أبداً عن %5 لا يريد أن يتلوث فى هذه الانتخابات فيبطل صوته.
الأغلبية العظمى تريد الحل الثالث الذى هو ليس حلا بالتأكيد،وأخذنا نسمع مناقشات غير منطقية: هل تنتخب شفيق؟ مستحيل فأنا ضد النظام السابق. إذن تنتخب مرسى؟ مستحيل فأنا لا أتحمل مسؤولية وجود نظام لن ينتهى. عظيم إذن ستبطل صوتك؟ لا، هذا سلوك سلبى، وتنتهى إلى مدرسة العبث أو اللا معقول التى بدأت فى الخمسينيات والستينيات وسيطرت على المسرح العالمى، ووصلت إلى المسرح المصرى، وتسربت الآن إلى السياسة.
وكل مرشح - على ما أعتقد - مشغول بمنافسه، وربما لاحظت ما لاحظته، وأن الصراع على الكرسى بدأ فى المرحلة الأولى رقيقاً مهذباً، ثم وصل إلى مرحلة الإعادة فظا خشناً، وبدأ الضرب تحت الحزام، ومع الأيام تزداد درجة العنف، وأصبح كل مرشح لا يتخيل أن الآخر من المحتمل أن يكون رئيساً، وإذا ذكرت له أن طبيعة الأشياء هى اختيار أحدهما، وأنه من الممكن أن يربح الآخر، عندئذ يحكى لك - أنه لو حدث ذلك لا قدر الله - فسيقوم برفع القضايا ثم تسيير المظاهرات التى لا تنقطع!
وقال صديق لى إنه قرر وضع صور الرؤساء فى مكتبه: محمد نجيب، جمال عبدالناصر، أنور السادات، محمد حسنى مبارك، ثم.... أحمد شفيق أم محمد مرسى.
تدخل صديق آخر وسأله: هل أنت معجب بهم جميعاً؟
فرد بأن هذا مستحيل، فنصحه أن يسقط من لا يعجبه ولكن هذا مستحيل! ولا مستحيل ولا حاجة، فقناة الإخوان المسلمين قامت بنفس الفكرة وبدأت بمحمد نجيب، وانتهت بمحمد مرسى وأسقطت جمال عبدالناصر!
لم نصدق ما قاله صديقنا، ولكنه أكد أنه رأى بعينيه هذا، وتدخل أحدهم: يا رجل هل تستطيع قناة الإخوان أو ألف قناة أن تزيل اسم جمال عبدالناصر؟ وعلق أحدهم: ربما لهذا قررت الدكتورة هدى عبدالناصر انتخاب أحمد شفيق.
وقال أحدهم: أنا أفهم منطقها ولكننى لا أستطيع أن أفعل هذا، ضميرى لا يتحمل المرشح الأول ولا يتحمل المرشح الثانى.
وتحدثنا عن سلبيته، فثار بغضب: أنتم تقصدون بالإيجابية أن أختار الكوليرا.. أو ربما تقصدون الطاعون، لكننى لا أريد هذا ولا ذاك.
ولكنه فيما بعد همس فى أذنى: على فكرة ربما فعلت هذا.. واخترت الكوليرا!
زمان كانت الأمور بسيطة.. لا أحد يذهب إلى الانتخابات والجهات الرسمية تقوم بالنيابة عن المواطنين بتسويق الأوراق واستبعاد نسبة من الأصوات الباطلة، وإعلان النتائج، وكان أغلب المواطنين لا يتابعون ما يحدث.
وذات مرة فى انتخابات الرئاسة أو على الأصح الاستفتاء على الرئيس، ركنت سيارتى فى مكان، وتأخرت عليه فوجدت «السايس» غاضباً يقول لى إننى أخرته عن ممارسة حقه الانتخابى.
ولقد أعجبت به إعجاباً شديداً، وبدا لى آلة مختلفة عن كل الآلات، وكنت أتردد إليه مع أصدقائى لأعرفهم بالرجل الذى يريد أن يشارك بصوته، ونشأت بينه وبين أصدقائى علاقات عميقة، وظل سنوات موضوعاً نشير إليه فى أحاديثنا، وكل ذلك لأنه مختلف، كنا جميعاً لا نكلف أنفسنا عناء الذهاب إلى لجان الانتخاب، والحكومة تقوم بالواجب كاملاً.
هل عدنا إلى ما كان، فلا أحد يريد الذهاب إلى لجان الانتخاب بعض أفراد الـ%10 الذين يؤيدون أحد المرشحين، سواء كان مقتنعاً به أو ناله بعض زيته وسكره، أو منّ عليه بجنيهات من كرمه.
ببساطة: فشلت فكرة الديمقراطية، وعلينا أن نعود إلى البداية، وهى أن الديمقراطية تبدأ من الثقافة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
سيأتى رئيس سواء ذهيت ام لم تذهب
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب
فعلا الديمقراطيه تبدا من الثقافه ولكن الثقافه المصريه فى عقول الطغاه فقط - ما الفائده
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
عباس
للفريق